لم تعد الجمهوريّة التركيّة، تلك الدولة المحدودة الطموح، والنائية بنفسها عن مدّ نفوذها الإقليميّ في كل حدبٍ وصوب. فمنذ وصول حزب “العدالة والتنميّة” إلى الحكم عام 2002، تغيّرت سياسات تركيا الداخليّة كما الخارجيّة.
أحدثت سياسة الحكومة الحيويّة أثراً إيجابيّاً في تركيا. فأصبحت البلاد القوة الاقتصاديّة السادسة عشر على الصعيد العالمي، بدخلٍ قوميّ ارتفع من 232 مليار دولار عام 2002، إلى 775 مليار دولار عام 2011. أما معدل نموها، ففاق معدل نمو معظم الدول الأوروبيّة، كنتيجةٍ لازدياد الدخل الفرديّ للأتراك ثلاثة أضعاف خلال عشر سنوات.
لم يأتِ هذا التقدم الاقتصادي نتيجة السياسة الحكومية المتبعة حصّراً. ولا بسبب وجود طبقةٍ رأسماليةٍ كبيرة فيها. إنما أيضاً، بسبب تمتع تركيا بنسبة كبيرة من الأفراد من ذوي الفئات العمريّة الشابة القادرون على العمل والإنتاج. بدأت هذه النسبة، التي أسهمت بدايةً بتطوير الاقتصاد التركي، بالتراجع منذ بضعة سنوات، فظهرت مشكلة تدني نسب الولادات، كما شيخوخة المجتمع. هذين الأمرين، نتيجةٍ طبيعيّة لزيادة الدخل ورفاهية الأفراد، كما لزيادة نسب تعلّم المرأة، واشتراكها بقوة في سوق العمل.
حذر التقرير السنوي الأخير للمعهد التركي للإحصاءات (TurkStat)، من بدء تفاقم المشكلة الديمغرافية في تركيا. خلص التقرير إلى إبراز تراجع معدل النمو السكاني من 1.35 % إلى 1.2 % عام 2012. كما أشار إلى أن عدد السكان في تركيا، البالغ اليوم 75.6 مليون شخص، سيصبح 84.2 مليون عام 2023، ثم يستقر ابتداءً من العام 2035، ليعود بعدها ويبدأ بالتراجع بشكلٍ حاد. أما الأخطر في التقرير، فهو أن المعدل الوسطي لأعمار السكان قد تخطى للمرة الأولى عتبة الـ 30 عاماً، ما ينبئ بأن الشعب التركي يجنح نحو الشيخوخة.
لم يكن هذا التحذير الصادر نهاية عام 2012، الأول من نوعه. فالحكومة التركيّة، تحسست مشكلتها الديمغرافية قبل ذلك. لذا، قام رئيسها، “رجب طيب أردوغان”، بدعوة الأتراك إلى سعي كل عائلةٍ منهم، إلى إنجاب ثلاثة أولاد. متوعداً بالمقابل العمل على رفع مستوى رفاهيتهم.
لم يوفر أردوغان، منذ سنتين إلى اليوم، فرصة ولم يكرر الدعوة هذه، وإن بصيغٍ أدبّية مختلفة كل مرة. فتارةً تكون الدعوة أمام الجماهير، وأخرى في اجتماعاته مع أعضاء حزبه أو وزراء حكومته. كما وصل به الأمر، أنه خلال زيارةٍ له إلى دولة كازاخستان عام 2012، أن حث شعبها على الإنجاب! طبعاً، لم يتفاجأ الكازاخستانيون “بوقاحة” الدعوة، طالما هم، كمعظم سكان آسيا الوسطى، من أصول تركمانية. فـ”أردوغان” زعيم كل الترك وليس فقط الأتراك.
لم يكتفِ الرجل الأقوى في تركيا بمجرد الكلام. بل بدأ وحكومته باتخاذ سلسلة من الإجراءات العمليّة لتشجيع العائلات على الإنجاب. كان أولها، تشكيل لجنةٍ من الوزارات المعنيّة، هدفها وضع سلسلة من التحفيذات لزيادة نسبة المواليد، ومحاربة ظاهرة شيخوخة الشعب التركي.
لم تكن اللّجان مقبرة المشاريع. فأولى التحفيذات، كانت زيادة عطلة الأمومة من 16 إلى 24 أسبوعاً. تبعها تقديم علاجات مجانيّة لـ2500 عائلة تعاني من عدم القدرة على الإنجاب. في حين يُتوقع أن تقوم الدولة التركيّة، كبعض الدول الأوروبيّة، بإعطاء بدلٍ ماديّ، أو إعفاءاتٍ ضريبيّة، لكل عائلةٍ تنجب عددٍ معين من الأطفال.
من ناحيةٍ أخرى، لم تنسَ الحكومة التركيّة أن “تستغل” الإعلام في حملتها هذه: فتقارير عن أعداد أولاد الوزراء والبرلمانيين الأتراك، ومدى سعادة العائلة التركية “النموذجيّة”، لا شك أنها تؤثر على الناس بشكلٍ أو بآخر.
للدولة التركيّة مخاوفٍ حقيقيّة، من أن تواجه مصير اقتصادات الدول أكثر تقدمًا. فتشهد في المستقبل، تقلّصًا بالقوى العاملة وقدرتها على الإنتاج بسبب زيادة متوسط الأعمار، يقابلها زيادة معدل الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعيّة. كما أن “أمّة” تحاول أن تقدم نفسها نموذجاً للعالم الإسلامي، لا تتلاءم صورتها مع صورة شعبٍ هرم.
بُعد سياسي داخلي، يضاف للمشكلة الديمغرافيّة التركيّة. فأكراد تركيا، الذين يشكلون على الأقل 15% من مجمل السكان، يتمتعون بنسب ولادات متوسطة للعائلة الواحدة، تبلغ أكثر من ضعف تلك التي يتمتع بها سائر الأتراك. ما سيؤدي، بعد جيلين تقريباً، أن يصبح عدد الأكراد موازٍ لعدد الأتراك في تركيا نفسها.
أمام واقع ازدياد الفرق بين نسب الولادات بين الأكراد والأتراك، عدّل “أردوغان” مطلبه. ففي 02/01/2013، وأمام مؤتمرٍ دوليٍ للعائلة والسّياسات الاجتماعيّة في أنقرة، قال: “طفل واحد أو اثنان يشبه الإفلاس. ثلاثة أطفال للعائلة يعني أننا لا نتحسن ولكننا لا نتراجع.. على كل عائلة تركيّة أن تتألف من ثلاثة أطفالٍ على الأقل، ذلك لأن سكان تركيا يشيخون”.
———————————–
يمكنكم الإطلاع على المقالة بصيغتها الأصلية هنا
مقالات آخرى عن تركيا:
المشروع الدستوري لـ”الرئيس” رجب طيب أردوغان
أكراد تركيا: حلٌ حان وقته
الأساطير اللبنانية والتركية: بين طائر الفنيق والذئب الأغبر