نشر أولاً على موقع المفكرة القانونية
واحداً تلو الآخر، دخلوا إلى القاعة ليتم استقبالهم من قِبل سيد القصر. تم عرض علب سجائرهم في منصات خاصة أمام الإعلام كأنها كنوز نادرة. ثم توجّه صاحب الدعوة، من خلالهم، إلى أبناء بلده بالتالي: “من مبادئي الأساسية محاربة التدخين تماماً كما أفعل تجاه كل العادات المضرّة. على الدولة حماية مواطنيها من التبغ والكحول والمخدرات، كما تحميهم من الجرائم والإرهاب.. أهنّئ من أقلعوا عن التدخين، وأدعو الجميع لإظهار القدرة للإقلاع عن هذه الآفة”[1].
لا يعود هذا المشهد إلى جلسة علاج نفسي للتخلص من الإدمان عن التدخين، إنما لاحتفال خاص أقامه رئيس الجمهورية التركية، رجب طيب أردوغان، في 9 شباط/ فبراير، لـ250 تركياً أقلعوا مؤخراً عن التدخين. ويُمثّل هؤلاء عدداً بسيطاً ورمزياً من مجموع المواطنين الذين أقلعوا في السنوات الماضية عن “شرب هذا السم” كما يصفه أردوغان، والذين يُقدّرون بحوالى مليون شخصاً قاموا بالإقلاع عن استخدام التبغ بين عامي 2010 و 2014 [2].
وتعود أسباب تراجع عدد المدخنين في تركيا إلى عاملين أساسيين. الأول، هو الإجراءات القانونية والضريبية التي أقرتها الحكومات التركية في السنوات القليلة الماضية. أما الثاني، فيعود إلى الحملات الإعلامية ضد التدخين التي أخذها أردوغان على عاتقه الشخصي. والذي لم يترك مناسبة إلا وشجّع الأتراك على التخلص من عاداتهم المضرّة، وإن تطلب الأمر أحياناً النزول إلى الشوارع وإخبارهم بذلك بشكل مباشر.
وخلال السنوات الماضية، عمد أردوغان إلى تشجيع المواطنين مراراً على ضرورة الإقلاع عن التدخين، أكان ذلك من خلال خطاباته العلنية أو بشكل مباشر. وغالباً ما كان يعمد إلى تقديم اللوم والنصح “الأبوي” للمدخنين الذين يلتقيهم خلال جولاته الميدانية في الشوارع والأسواق. كما يعمد، حتى، إلى أخذ علب سجائرهم منهم، في مواقف غريبة بعض الشيء يتم تناقلها بشكل كثيف في الإعلام التركي وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولا ينبع هذا الحماس الرسمي لمحاربة التدخين من رغبة رئاسية خاصة فقط، أو هو مجرد عمل يتيم هدفه الدعاية والظهور بمظهر المهتم بصحة المواطنين، إنّما ترافق، في السنوات الأخيرة، مع تطبيق سلسلة من الإصلاحات الحكومية في القطاع الصحي. وهي إصلاحات عزّزت من مكانة الخدمات الطبية من حيث النوعية والكمية، وأمّنت واحدة من الضمانات الاجتماعية الضرورية، والطبيعية، لكل مواطن.
إصلاح القطاع الصحي التركي
شهدت تركيا خلال فترة حكم حزب “العدالة والتنمية” الكثير من المحاولات والمشاريع الساعية إلى تحديث القطاع الصحي. فقبل العام 2003، كان هذا القطاع “في حالة سيئة جداً” على حد وصف تقرير للبنك الدولي. إلا أنّ الأمور تحسنت بعد ذلك التاريخ تدريجياً. ويُبرز التقرير المشاكل الأساسية التي كان يعاني منها القطاع الصحي، وهي تتراوح بين تجزئة النظام الصحي مع وجود أربعة أنواع من الضمانات التابعة له، ووجود تضارب في عمل أربع وزارات مختلفة تُعنى بالشأن الصحي. غير أن الإصلاحات التي أقرّتها الحكومات المتعاقبة حسّنت من حالة القطاع ككل، ووسّعت التغطية الصحية للأتراك، فباتت تشمل 98 بالمئة من السكان في العام 2012، بعدما كانت تقتصر على 64 بالمئة منهم قبل عشرة أعوام [3].
بدأ الإصلاح عبر جعل كل الشؤون الصحية مرتبطة بوزراة الصحة حصراً [4]، بعدما كانت موزّعة على وزارات أربع وبضعة مديريات، الأمر الذي سهّل على المواطنين الاستفادة من الخدمات الصحية، ووفّر عليهم جهداً في تعقّب المعاملات. كما تمّ إقرار قانون “الضمان الاجتماعي وقانون التأمين الصحي العام” في العام 2006، وأُرفق لاحقاً، في العام 2008، بسلسلة تعديلات جذرية نصت على إقرأ المزيد