“الريّس” يحكم سيطرته على تركيا

جو حمورة

820141212728

لم يعد رجب طيب أردوغان بعيداً جداً عن إعلان نفسه حاكماً أبدياً على الشعب التركي. فبعد أن استحق لقب أقوى الشخصيات السياسية في تاريخ الجمهورية من دون منازع، يتقدم الرجل نحو تتويج حكمه بصلاحيات كبرى في النظام السياسي. إذ أن الدستور الجديد الذي يعمل عليه حزب “العدالة والتنمية” سيعطي رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة في ممارسة الحكم، لينتهي بذلك زمن “الرئيس الحَكَم”، ويصبح فعلاً “الرئيس الحاكم”.

إلا أن القوة التي سيعطيها الدستور لرئيس الجمهورية، تهدف، عملياً، إلى جعل النظام السياسي متناسباً مع الواقع. فأردوغان لن يأخذ من الدستور ما لم يحققه بذاته، أو ما لم تعطه قوته الشخصية القدرة على ممارسته. فإن كان الدستور التركي الآن لا يُعطي الكثير من الصلاحيات للرئيس التركي، إلا أن أردوغان يتصرف وفق الدستور الجديد حتى قبل إقراره.

ويعود هذا الأمر بشكل أساسي إلى القوة السياسية والشعبية التي يملكها أردوغان، والتي استطاع تحقيقها بسبب عوامل عدة. ومنها ما هو مرتبط بفشل الأحزاب المعارضة، وغيرها مرتبط بتحالفه مع تجمعات “غير سياسية” تؤمن له الشعبية والنفوذ. هذا بالإضافة إلى سيطرته على حزبه السابق، واستفادته من الأحداث الأخيرة التي جرت في تركيا، والتي سهلت عليه مهمة الإنقضاض على معارضيه بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية، أكان حزب “العمال الكردستاني”، أو جماعة الداعية الإسلامية فتح الله غولن.

وعلى الرغم من أنه ليس عضواً في حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، إلا أن لديه نفوذاً كبيراً على حزبه السابق، أكان بين مناصريه، وحتى في مجالسه السياسية. فيوم إفترق رئيس الحزب السابق أحمد داوود أوغلو عن أردوغان، لم يتكلف هذا الأخير إلا بضعة ضغوط على المجلس السياسي لحزب “العدالة والتنمية”، فتم إحراج أوغلو وإخراجه من رئاسة الحزب والحكم ومن المشهد السياسي في البلاد.

بالإضافة إلى ذلك، يتمتع أردوغان بشعبية كبيرة بين فقراء تركيا وأغنياءها. وهما “عكازتان” تؤمنان له القدرة على الفوز بأي إنتخابات يخوضها. فالفقراء المتحلقون حول الطرق الصوفية التركية المؤثرة جداً في المجتمع، يؤمّنون له نسبة مقبولة من الشعبية والأنصار، تضاف إلى سكان الأناضول وضواحي المدن الكبرى المؤيدين له تقليدياً. في المقابل، عزز أردوغان طوال فترة حكمه من سياسات الدولة الليبرالية، ومكّن الشركات الكبرى من الإستثمار وتحقيق الأرباح، فتحالفت “طبقة” كبيرة من رجال الأعمال مع الحكومة. ففي حين يقوم الحكم بتسهيل أعمالها، وتخفيف أعباءها الضريبية وفتح أسواق لها في الخارج، يستفيد بدوره من تجمعات رجال الأعمال من أجل تعزيز تفوذ الطبقة الحاكمة داخل تركيا، أكان شعبياً أو سياسياً أو مالياً.

من ناحية أخرى، لخطاب حزب “العدالة والتنمية” وأردوغان، قدرة كبيرة على استقطاب الأتراك. ويعود ذلك إلى سياساتهم الإقتصادية الناجحة، كما بسبب السياسات الإجتماعية المحافِظة التي يطبقونها. إذ أن التركيز على أهمية إعلاء شأن الدين من ناحية، والعودة إلى أمجاد السلطنة العثمانية من ناحية أخرى، تؤثر على انتماءات الأتراك وميولهم السياسية والعقائدية.

بالإضافة إلى ذلك، يعود قسم من قدرة أردوغان على فعل ما يريده في تركيا إلى ضعف المعارضة الداخلية، وبخاصة الأحزاب الأخرى. ومنها حزب “الشعب الجمهوري” العلماني، الذي يتحكم برئاسته كمال كيلتشدار أوغلو ذو الكاريزما الضعيفة، والمحافظ على تنظيم حزبه القديم، والعقيدة العلمانية الأتاتوركية التقليدية. كما حزب “الحركة القومية” المتطرف، المتلهي بخلافات عميقة على السلطة بين أعضائه، والذي لا يقدم أي شيء في خطابه السياسي عدا التهجم العنصري على الأكراد والأقليات الدينية والقومية الأخرى.

بالمقارنة بين أحزاب المعارضة والحزب الحاكم، يبدو هذا الأخير أكثر تكيّفاً مع الواقع، وأكثر حيوية في تقديم خطابه إلى الناس، بينما يبقى الحزبان المعارضان جامدين كمن يعيد تكرار عبارات الماضي دون تقديم أي جديد. وهذا ما يُضاف إلى أن الإنتلجنسيا الحاكمة، والمتحلقة حول حزب “العدالة والتنمية”، قامت بنقد الأتاتوركية على مدى السنوات الماضية، وأفقدتها الجاذبية التي كانت مُلهمة للكثير من الأتراك.

فبعد حوالى 15 عاماً على حكم “العدالة والتنمية” تراجع بريق مصطفى كمال وعقيدته العلمانية، ولم يبقَ منها إلا صور أتاتورك على الجدران. فالإنتلجنسيا المتحكمة بالفضاء التركي العام، وفي الإعلام والمؤسسات السياسية، أفقدت العقيدة بريقها، وقدمت نقضاً لها شمل كل مكوّناتها.

لم يعد أتاتورك البطل الأوحد الذي حرر تركيا من الدول الغربية في مطلع القرن الماضي، بل بات واحداً من كثيرين حققوا هذا الأمر. كما لم يعد “البطل المحنّك” الذي توصّل إلى معاهدة لوزان عام 1923 التي أعلنت إستقلال تركيا، بل باتت النظرة النقدية هي الطاغية حالياً عند ذكر المعاهدة، وذلك بسبب تضمنها رسماً لحدود “صغيرة” لتركيا، وإفقادها أراضٍ باتت اليوم تابعة لسوريا واليونان.

وفي الجامعات، كما في الإعلام، وحتى في القضاء، يتراجع وهج الأتاتوركية. إذ ما عاد القضاء التركي يحاكم، إلا نادراً، من ينتقد شخص أتاتورك في العلن. كما بات الإعلام يخفف من استخدامه الكلمات المنمقة عند ذكره مصطفى كمال. هذا في وقت بات انتقاد أفكار أتاتورك العلمانية أمراً طبيعياً في الأوساط الجامعية والبحثية. خسر أتاتورك الهالة التي صنعها لنفسه، وباتت الهالة تحلق فوق رأس أردوغان.

كذلك الأمر، ساهمت السياسات الإجتماعية المحِافظة التي عمد إلى تطبيقها حزب “العدالة والتنمية” إلى إبراز الفروقات الكبيرة بين الإسلام السياسي والعلمانية. وعلى الرغم من أن هذه الفروقات أمر واضح ومفروغ منه، إلا أنها تبقى، بالنسبة إلى الأتراك، أمراً صعب التمييز. غير أن كثرة السياسات المحافظة وإعلاء شأن الدين بالحياة الإجتماعية والسياسية، يجعل من الأتراك يبتعدون رويداً رويداً عن كل ما تعنيه العلمانية والأتاتوركية.

من ناحية أخرى، أدى فشل محاولة الإنقلاب الأخيرة إلى تطبيق سياسات “انتقامية” من قبل أردوغان والحزب الحاكم بحجة محاربة الإرهاب. لذلك، عمدوا إلى إضعاف قوة الداعية الإسلامي عبر اعتقال أنصاره وطردهم أو إغلاق أعمالهم ومصالحهم. فدفع عشرات الآلاف ثمناً لذلك، أكان في المؤسسات الأمنية أو التعليمية أو القضائية أو الإعلامية. هذا في وقت يحل مكانهم اليوم أنصار أردوغان، الذين باتوا يسيطرون بحكم الأمر الواقع على معظم البيروقراطية التركية ووسائل الإعلام والمؤسسات التربوية الرسمية والخاصة. وهذا ما يجعل من أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” أصحاب قدرات كبيرة في التأثير على الأتراك من ناحية، كما في أخذ أي قرار وتطبيقه من دون أن يجدوا أي معارض حقيقي لهم من ناحية أخرى.

كذلك الأمر، يجنح المجتمع التركي اليوم نحو نوع من “تأليه” لشخص أردوغان. فيتم الآن إنتاج فيلم ترويجي عن حياته تحت عنوان “الريّس”، كما تقام له غالباً بعض الأدعية في المساجد التي تتضرع لحمايته، ويتم إلصاق صوره في كل مكان. هذا بالإضافة إلى بروز مجموعات مدنية شبه متعسكرة ليلة محاولة الإنقلاب ولها ارتباطات مباشرة به.

بات أتاتورك من الماضي، وللأتراك اليوم “ريّس” وملهم جديد. هو الحاكم القوي والفعلي، أكان عبر الدستور الحالي أو عبر الدستور الجديد المنوي إقراره. فالواقع في تركيا أقوى من الدساتير، والحاكم القوي لا يحتاج دائماً إلى قوانين ومواد، بل إلى شعبية وقدرة مادية ومجموعات دينية تؤمن له استمراره بالسلطة، بالإضافة إلى معارضة بسيطة وبليدة تفيد أردوغان أكثر من أي فائدة يمكن أن تقدمها لبلادها.

نشرت أولاً في مجلة المسيرة، عدد 1581.

مدينة المعوّقين

جو حمورة

image00338

الاستيقاظ صباحاً صعب دائماً لمن يحب السهر، فالحياة هذه الأيام، وسرعتها، تجعل من الليل الوقت المتاح للكتابة والقراءة. وهنا، في مدينة إزميت التركية، لا حياة ليلية صاخبة كما في المدن والدول الأخرى، بل ينام سكانها باكراً، ويخيّم الهدوء على المدينة دون أن يعكره أحد، باستثناء ضجيج من يفترش الشوارع ليحلم بحياة بعيدة عن الفقر.

بعد الفطور والتمتمات الصباحية “الضرورية” في اللغة التركية، يأتي موعد انتظار الباص للانتقال إلى الجامعة. التنظيم والدقة صفات ملاصقة لكل شيء، إذ أن الباص يمر كل ربع ساعة، ولا يتأخر عن موعده المحدد غالباً إلا ببضع دقائق على الأكثر.

من السهل جداً معرفة مَن مِن منتظري الباص أتراك ومن منهم أجانب. إذ أن أبناء البلد، تنضج وجوههم ببعض الحماس الصباحي، بينما نحن، الأجانب، نجر أجسادنا ببلادة كبيرة. وعلى محطة الانتظار أناس من كل الطبقات، والجنسيات والأعمار. فهذا رجل ببدلته الرسمية متوجه إلى مكتبه، وتلك فتاة تذهب يومياً لزيارة والدتها في المستشفى. وهذه، على كرسيها المدولب، تريد لقاء أصدقائها.

التلصلص على حياة الغرباء هوايتي الصباحية والتحضيرية للتعرف عليهم. وعندما تكون أجنبياً، يقع اختيارك، غالباً، على “الطرائد” السهلة. فرجل أعمال بوجه عابس، أو مراهقات كثيرات الضجة، ليسوا أهدافاً محببة ليتعرف عليها غريب. لذلك، يبقى تبادل أطراف الحديث مع عجوز أو طفل أو طالبة، لبضع دقائق، أقصى طموحاتي ريثما أصل إلى وجهتي المقصودة.

وقع اختياري الأخير على صاحبة الكرسي المدولب. ولمَ لا؟ فالمصائب الدائمة تجعل من أصحابها ضعفاء عند الحديث مع غيرهم. ثم، أي نشاط آخر تفعله معوّقة غير الكلام؟ لذا، بادرت بافتتاح الحديث معها عند محطة الانتظار، وكانت لطيفة. سألتني عن بلدي، وعن سبب سكني في إزميت، وكان النقاش عادياً.

بعد الكلام، انتقلت إلى الفِعل. عرضتُ عليها مساعدتي لركوب الباص، فرمقتني بنظرة غاضبة. لم تتقبل مساعدتي بأي شكل من الأشكال، بل انتظرت نزول جسر صغير منحدر من الباص لتمر فوقه، لتعود وتدخل إليه وتأخذ مكاناً مخصصاً لها.

وفي هذا التصرف المُفاجئ الكثير من القوة، خاصة أنني أخطأت بالتقليل من قوة شخصيتها سابقاً. واخترتها، أساساً، بسبب ضعف رأيته فيها. كما أن رفضها للمساعدة رغم حاجتها لها، يلفت الانتباه إلى عزة النفس التي لديها، وإلى الاستقلالية التي تعيشها.

جلستُ بجانبها لإكمال الحديث، فكانت البداية مع قولها “بن غوتشلويوم” (أنا قوية). ثم راحت تشرح لي عن زلزال العام 1999 الذي ضرب مدينة إزميت، وأودى بحياة 25 ألفاً منها، ومن المناطق المجاورة. وكيف أن الآلاف عانوا من بُطء أجهزة الدولة حينها، وقضوا تحت الركام، أو أصيبوا، كما حالتها، بعطب دائم.

ومن حينها، تهتم بلدية المدينة بالمعوّقين بشكل خاص، وتقدم لهم الكثير من الخدمات، خاصة أن أعدادهم كثيرة، حيث يصعب السير في شوارع إزميت دون رؤية أحد منهم على كرسيه المدوّلب أو على عكاز. لذا، كانت سياسات البلدية التي سعت إلى دمج هذه الفئة مع بقية المجتمع، وإشراكها في نشاطاتها ووظائفها وتقديماتها المادية. كما وضعت في كل مكان تقريباً ممرات وأجهزة خاصة لتسهيل تنقلهم وحركتهم.

أما المجتمع فلا يُبدي أي انزعاج من المعوّقين، بل يتقبل حاجاتهم وظروفهم بشكل عادي. ويعود ذلك إلى السياسة الرسمية من جهة، كما إلى التربية في المدارس والندوات التثقيفية والتوعوية التي تسعى إلى تحسين ظروفهم من جهة أخرى. هذا في وقت توظف الدولة كما البلدية نسبة منهم، وتعاملهم تماماً كبقية الموظفين.

التهميش غير موجود، أو هو بسيط إن أردنا أن نكون موضوعيين. وهذه المدينة “جنّة” المعوّقين التي لا تُشعرهم  بالإقصاء أو التمييز، بل بأنهم عاديون كغيرهم تماماً. وهذا ما يقوّي المعوّقين على مواجهة ظروف الحياة ومصاعبها، بدءاً بالصعود إلى حافلة، وصولاً إلى تأسيس عائلة، ومروراً بالاتكال على أنفسهم في كل شيء.

أكمل مشواري إلى مقصدي مستمعاً إلى صديقتي الصباحية، وأحاول أن أكتشف مكامن القوة وأسبابها في شخصيتها. إلا أن مشاوير الصباح ليست رحلات استكشافية طويلة، بل سريعة وظرفية، وتنتهي في دقائق. وأنا أهم بالنزول من الباص وأودعها، ألتفت إلى بقيّة ركاب الحافلة، متوقعاً أن واحداً من هؤلاء المساكين سيستخف بقوة هذه المرأة عند نزولها إلى مقصدها، وسيتعرض، بدوره، إلى نظراتها الغاضبة.

نشرت أولاً على موقع  الجزيرة مباشر.

 

“لا معلّقة ولا مطلّقة”.. مسلسل لبناني–مكسيكي في إسطنبول

جو حمورة

12-3

تتحوّل إسطنبول اليوم إلى مركز لإنتاج اللبنانيين الفني. يحط فيها الكتّاب والمصورون والمنتجون، ويملأون مقاهيها وشوارعها، ويعملون ليلاً ونهاراً على انتاجاتهم لتقديمها إلى المشاهد اللبناني والعربي والعالمي. فإسطنبول باتت، منذ زمن، أرض الفرص.

مؤخراً، يعمل فريق من اللبنانيين على مسلسل قصير في تركيا، يحمل إسم “لا معلّقة ولا مطلّقة” (My Single Married Friend). يحكي قصة فتاتين، واحدة لبنانية وأخرى مكسيكية، ومغامراتهما المتتالية في المدينة. ويستعرض مواقف طريفة وأحداثاً شيقة تتعرض لها الصديقتان القادمتان من عالمين مختلفين تماماً؛ صوفيا من المكسيك، ومها من لبنان. كما يتضمن هذا المسلسل المنوي عرضه في الإنترنت (Web Tv) الكثير من الأحداث ومصاعب الحياة في مدينة لا تعرف إلا المغامرات.

ويَبرز الـWeb Tv  أخيراً كمكان مناسب لعرض الإنتاجات البسيطة، والتي تبقى ميزانيتها مقبولة ومتواضعة بالمقارنة مع أصحاب الإنتاجات الضخمة الذين يتمتعون بتعاقدات مع شركات كبرى. كما يبقى المكان الأمثل للمغامرين والشباب، ومقدمي الأفكار الجديدة والجريئة، وذلك على عكس المسلسلات التلفزيونية التي باتت، بأغلبها، تكرر نفسها بشكل أو بآخر، ولا تقدم أي جديد إلا في ما ندر.

وفي حديث لـ”المدن”، ترى مخرجة المسلسل رانيا عيتاني “أن أهمية هذا العمل تنبع من كونه يُقدم نظرة جديدة لحياة الأجانب في محيط غير عربي”. كما تؤكد أن المسلسل مستوحى من قصة حقيقية، وهي قصة صديقتين لبنانية ومكسيكية عاشتا في إسطنبول، وتسعيان إلى تحقيق نجاح في مجتمع جديد ومختلف عنهما بشكل كبير.

تدور أحداث المسلسل حول حياة فتاة مكسيكية قررت قطع علاقتها مؤقتاً بزوجها، وانتقلت للعيش مع صديقتها اللبنانية. فتعيش بطلتا المسلسل مجموعة أحداث متتالية في محيط غريب عنهما سوياً. هذا في وقت تتشارك كل من عيتاني واستيفانيا سييارا زانيلا في كتابة نص المسلسل وانتاجه، والذي استوحتا فكرته الأساسية من حياتهما في المدينة وبعض تجاربهما السابقة فيها.

يتألف الموسم الأول من المسلسل من 10 حلقات، وتلعب دور البطولة فيه كل من هبة شعيب (لبنانية) وأليانا مصطفينا (مكسيكية). أما الموسيقى، فبعضها لفرقة موسيقية نيوزيلاندية وأخرى أميركية، في حين أن المصورين لبنانيون وأتراك وأجانب، هذا ويتم تصوير المشاهد في أماكن عديدة في مدينة إسطنبول، وتضم بعض الأتراك الذي يؤدون أدواراً ثانوية في المسلسل.

يستخدم المسلسل اللغة الإنكليزية بشكل أساسي، بالإضافة إلى بعض العربية والإسبانية والتركية. إلا أن استخدام الإنكليزية يبقى طاغياً لأنه، بحسب عيتاني، “لغة الأجانب الذين يعيشون في إسطنبول”، واللغة الأبرز القادرة على الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين.

وعلى الرغم من أن عدد الممثلين الدائمين في “لا معلّقة ولا مطلّقة” لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، إلا أن الفريق الذي يعمل على تصوير المسلسل كبير نسبياً. فبعضهم تطوع في عمله، وغيرهم قدّم بعض الآلات الضرورية للتصوير، وساهموا في رفع مستوى العمل ككل، كما في إبراز معالم المدينة بطرق جديدة ومبتكرة.

كذلك الأمر، للمسلسل جانب مهم بسبب تسليط الضوء على شخصيات نسائية. فهو يقدم صورة إيجابية للمرأة العربية في المجتمع “الغربي”. كما يكسر الصورة النمطية عن المرأة اللاتينية. هذا بالإضافة إلى مصاعب وأشكال الحياة في مدينة ضخمة ومتنوعة الجنسيات والثقافات كإسطنبول.

وكما دائماً، يبقى تمويل العمل مصدر قلق لمنتجي المسلسلات والأفلام القصيرة، والذين يعتمدون على بعض التبرعات حيناً، وعلى مجهودهم وإمكاناتهم الفردية في أحيان أخرى. وكغيره من الأعمال، طرح فريق “لا معلّقة ولا مطلّقة” الصوت عبر فيديوهات قصيرة من أجل الحصول على تمويل شركة إنتاج لضمان استمرار العمل، ولتصوير بقية الحلقات “تحضيراً لعرضها تباعاً في بداية العام 2017″، كما تأمل عيتاني.

نشرت أولاً على موقع المدن الإلكتروني

بيروت لم تعد مدينتي

جو حمورة

Mideast Lebanon Trash

… وأخيراً وصلت إلى بيروت. وطأت قدماي المدينة التي غبت عنها لفترة، لأعود وأغادرها مسرعاً بعد أيام قليلة.

تفاجئك هذه المدينة بغرابتها، وبكثرة الشعوب والثقافات فيها. بات اللبنانيون عملة نادرة أصلاً، وأحياناً لا ترى أحداً منهم في الشارع. معظم سكانها هجروها أو هاجروا منها، أو باتوا يسكنون في قراهم ويأتون إليها لا لشيء غير السعي إلى الربح المادي.

نهاية الأسبوع البيروتي مضجرة. لا يبقى فيها إلا سيئو الحظ وسكانها “الأصليون”، كما العمال الأجانب والنازحون. طبعت الأزمة السورية ومأساة شعبها بصماتها على كل شبر في المدينة: هنا مكتب لتوظيف الوافدين، وهناك دكان للاجئ جديد، وبجانبهما تمر عربة خضار يجرها فقير، وحولهم جميعاً جبال من النفايات تلف بيروت من كل الزوايا.

وعلى الرغم من مرور سنة ونيف من عمر أزمة النفايات، لا يبدو من مشهدها في بيروت أنها بالفعل قد بدأت بعد. الأزمة بدأت للتو، والقادم أسوأ.

إنه الصباح. رائحة “باريس الشرق” الكريهة تملأ المكان. كل شيء له رائحة الخردل ودخان الحرائق والبكتيريا. إنتهى منذ فترة طويلة زمن الاستيقاظ على زقزقة عصافير الحي وصراخ بائع الكنافة. كل هذا بات من الماضي الذي غاب ولن يعود. لم يبقَ في هذا المكان إلا الفوضى والطمع والجشع والباحثون عن لقة عيش في كومة قمامة في أي شارع.

حتى الفروقات الطبقية تقلصت أمام قوة القمامة. ما عاد هنالك فرق شاسع بين شارع راقٍ وآخر شعبي حقير، إذ أن كل شيء بات متشابهاً، وله نفس اللون الكئيب والرائحة الكريهة. يتشارك الغني والفقير بقاسم مشترك نادر في مدينة كبيروت. ما عادت لعنجهية الغني ورائحة عطره أي أفضلية على عرق جبين أي فقير. فالجميع يتنشقون دخان حرائق النفايات ليلاً، ويمرون في الشوارع المليئة بالنفايات نهاراً، وتنخر أجسادهم الموبقات نفسها دون تمييز أو تفرقة.

العام الماضي، وعلى غير عادة، بادر بعض اللبنانيين إلى مواجهة السلطة السياسية بالتظاهر والعصيان لحل أزمة النفايات. تحمس البعض وعارض آخرون، إلا أن الحركة الشبابية المعارِضة فقدت ثقة الشارع سريعاً، وما عادت تؤخذ على محمل الجد، وباتت نشاطاتها أقرب إلى فلكلور سيئ الإخراج. انتهت الحركة وبقيت الأزمة، ثم زادت الأمراض وكثرت النفايات. ما عاد العيش في بيروت يُحتمل لزائر موسمي مثلي أو حتى لسكانيها الدائمين.

سوداوية المشهد البيروتي له إيجابية وحيدة، القرية اللبنانية باتت ملجأ لكارهي بيروت الجدد. إذ إننا بمعظمنا، نحن اللبنانيين، سكان قرى جبلية بالأساس. وبيروت والمدن الساحلية الأخرى، هي عندنا مجرد مكان للتجارة والعمل والتعليم والطبابة والمادة. يوم نزلنا إليها منذ عشرات السنوات، هربنا من روتين وبساطة القرى، كما هرب البعض منّا بسببب الحرب والفوضى، ورحنا نبحث عن فرص جديدة وخدمات أفضل. ما كنّا ندرك أن هذا النزول هو إنحطاط، ليس في الجغرافيا فقط، إنما في الأخلاق والقيم.

القرى مقبرة الطموح، والمدن مقبرة القيم. يوم نزلنا إلى “باريس الشرق” كنّا مسحورين بألوانها وتعقيدها، وكانت “جنّة” بالنسبة لقادم من قرية ليس فيها أي لون غير خَضار الشجر وقرميدية سطوح المنازل. كثرة الطموح والطمع قتلت أرواحنا في النهاية، أو ربما نحن من قتلنا بيروت. أفسدنا العيش على أهلها، وأخذنا منها ما نريد، ثم تركناها يوم بات العيش فيها شبه مستحيل.

ما إن انتهى يومي الثاني في بيروت، حتى بات الذهاب إلى قريتي ضرورة. لأزمة النفايات حسنات، وهي لقاء الأجداد والتنعم ببعض الهواء الصحي. لا تزال القرية اللبنانية، بالإجمال، تحافظ على معظم هويتها. صحيح أن التمدن دخل إليها حديثاً، إلا أن قدومه لم يكن يسيراً، بل واجهته شدة أبناء القرى وتقاليدها المتجذرة. وهؤلاء بات استهلاكهم مزيجاً من منتجات الأرض والوجبات السريعة، كما تغيّر نوع الآليات التي يستخدموها، فيما باتت بعض بيوتهم من طبقات عدة. إلا أنهم، لحسن حظي، لم يتمدنوا بالقدر الكافي، وبقوا أبناء قرى في التفكير والإحساس، وإن تغيرت بعض أنماط استهلاكهم ومظهرهم الخارجي.

العودة إلى الجذور فيها شيء من الروحانية، ولكون موقع القرى في الجبال، يبدو الصعود إليها إرتفاعاً نحو السماء. وكلما زادت المسافة بُعداً عن بيروت ومحيطها، اكتشفت أنني أغادر مكاناً لم أنتمِ إليه يوماً. قد تكون الأزمات الكثيرة والدائمة التي تندلع في عاصمة لبنان مصدر هذا الإحساس. أو ربما هي إشارة إلى أن الانتماء الحقيقي في بلادي هو انتماء للأرض والجذور، وليس لشقة في بناية في حي في منطقة فيها خليط من لبنانيين قادمين من كل أطراف البلاد لا يربطهم ببعضهم البعض إلا القليل.

أقضي أوقاتي في قريتي، وحيث يجب أن أقضيها أصلا، ما لي ببيروت؟ تبدو من بعيد أرضاً غريبة، لكأنها بلد آخر. سكان القرى لطفاء بشكل عام، وغالباً ما يساعد بعضهم بعضاً. قليل من السياسة، والكثير من التراث والأرض واللقاءات العائلية تشغل أيامهم. لا نفايات ولا أزمات مستعصية تقلق لياليهم، إنما مجرد “هموم” لا تزيد عن مسائل تتعلق بحال موسم الزيتون، والطقس المتقلب، ومَن سيتزوج مَن.

بيروت لم تعد مدينتي، باتت من الماضي. لن أطأها إلا لمغادرة لبنان عبر مطارها بين فترة وأخرى، تخلينا عن قرانا مرة في الماضي، الآن نعود إليها، ولن نتركها ثانية.

جو حمورة، بيروت لم تعد مدينتي، الجزيرة مباشر، في 15 أيلول 2016.