بعيداً عن الضجيج الإعلامي والاتهامات التخوينية المضادة، يمكن مقاربة الصراع الأخير في تركيا، بين القوتين الإسلاميتين الأكبر فيها، تبعاً للخلفية الفكرية لكلٍ منهما. فما بدأ على شكل خلافٍ سياسي محدود بين طرفي النزاع، الأول ممثلاً برئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان وحزبه، والثاني بجماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، سرعان ما تحول إلى أزمة سياسية عميقة، كشفت النقاب عن الاختلاف الفكري الكبير الذي تعيشه أبرز القوى الإسلامية التركية.
فبعيداً عن الاستقطاب التقليدي في تركيا، ما بين العلمانيين والإسلاميين، أو المؤسسة العسكرية والسلطة المدنية، يدخل صراع من نوع آخر إلى الساحة التركية من بابها العريض. هذا الصراع بين الطرفين الإسلاميين يبدو جديداً في دولة لطالما عانى إسلاميوها من قسوة العلمانيين والعسكريين عليهم. كما يبرز كم أصبحت القوى العلمانية التركية فاقدة للقدرة على التأثير في المجتمع أو الحياة السياسية، في ظل نظامٍ سياسي لا يزال في الاسم وبعض المضمون “علمانياً” لكنه محكوم بإسلام حداثي تأقلم مع الدولة والنظام السياسي دون أن يسعى لتغيره من فوق أو بالقوة.
ينتمي “غولن” التركي المولد والذي يعيش الآن في منفاه الإرادي في أميركا، إلى مدرسة المفكر الصوفي “بديع الزمان سعيد النورسي” (1877-1960)، المُنشئ للطريقة الصوفية المسماة بالنورسية. وقد راكم قوته الاجتماعية من خلال قطاع التعليم الذي عمل فيه منذ السبعينيات عبر إنشاء المدارس ودور الطلبة، ثم تمدد نفوذه إلى قطاع رجال الأعمال الأناضوليين والقطاع الإعلامي. كذلك استفادت حركته، المعروفة باسم “حزمت”، بين العام 2004 إلى الأمس القريب، من تحالفها مع حكم “أردوغان” في مواجهة المؤسسة العسكرية، لتتغلغل في أجهزة الدولة كالشرطة والقضاء والإدارة بشكل عام. حتى باتت “دولة ضمن الدولة” كما يحب الإعلام توصيف الجماعة، إشارة منه إلى قدراتها في تركيا ونفوذها فيها.
يعتبر “غولن” بأن الشعور الديني والنشاط الاجتماعي يسيران معاً في تناغم، كما يرى أنهما يتلائمان من دون وجود تناقض أو صراع بين القيم الثقافية الدينية والحقائق العلمية. كذلك يركّز على البعد الاجتماعي لأتباعه مبتعداً عن الانخراط في العمل السياسي بشكل صريح. بالإضافة إلى أنه لم يسعَ لبناء أو تبني إيديولوجية دينية أو سياسية محددة، بل سعى من خلال قوته الاجتماعية والمالية والمؤسساتية التي راكمها على مدى السنوات، إلى إظهار نموذج جديدٍ للإسلام في تركيا يتلاءم مع شروط الحداثة.
وتبعاً للتجربة التركية الحديثة، يعتبر “غولن” أن الإسلام التركي استطاع أن يكون حداثياً لأنه “طُعم” بالوطنية التركية، بينما لا يمكن بالنسبة له أن يكون الإسلام الفارسي أو العربي كذلك. فتختلف هذه النظرة الخاصة للتجربة الإسلامية التركية، مع نظرة “أردوغان”، ذو الخلفية الصوفية النقشبنديّة، حول مسألة الإسلام والحداثة. إذ يعتبر الأخير أن الإسلام يمكنه أن يكون حداثياً بغض النظر عن انتماءاته القومية.
كذلك يختلف الاثنان في النظرة للعلويين الأتراك (Alevis)، وهم غير العلويين العرب الموجودون في سوريا، حيث يعبّر”غولن” عن تأييده مطالبهم الثقافية والدينية في نظرة تسامح تجاههم، لاعتبارهم أتراكاً في القومية بالدرجة الأولى بغض النظر عن العامل الديني المختلف. في حين لا يبدي “أردوغان”استعداداً للاعتراف بهم كأكبر أقلية دينية ذات استقلال في إدارة شؤونها في تركيا، أو حتى بتصنيف أماكن عباداتهم بالأماكن الدينية.
أما في النظرة إلى الأكراد، فيبقى “غولن” مختلفاً معهم حول مطالبهم السياسية والثقافية لسبب اختلافهم القومي عن الأتراك. بينما لا يمانع “أردوغان” التعامل معهم تبعاً لانتمائهم الديني حصراً.
أما خارجياً، فإن “غولن” قليل التأيد والإعجاب بمد نفوذ تركيا في الشرق، بالرغم من استفادة حركته من النفوذ التركي لتوسيع نشاطاتها التعليمية خارج تركيا. كذلك فهو لا يؤيد السياسة “النيو-عثمانية” المتبعة من قبل “أردوغان” الساعية إلى عودة تركيا إلى الشرق بكل نفوذها السياسي وتأثيرها الثقافي. بينما يفضل “غولن” الانفتاح فقط على الجمهوريات التركية التي تسكنها شعوب ذو أصول تركمانية (أذربيجان، كرغزستان، كازاخستان، تركمنستان، أوزبكستان وجمهورية قبرص التركية). كذلك لم يتوانَ “غولن” في انتقاد سياسة رئيس الحكومة التركي في سوريا في أكثر من مناسبة، ملمحاً إلى فشلها وتأثيرها السلبي على التعايش بين الأتراك.
من ناحية أخرى فإن “غولن” يبدو أكثر حماساً في توجه تركيا إلى أوروبا، ويسعى جاهداً إلى تسهيل دخولها إلى الإتحاد الأوروبي عبر لقاءات له تحت عنوان “حوار الأديان” من جهة، إضافة لربط الاقتصاد التركي أكثر بالاقتصاد الأوروبي عبر تأثيره على تجمعات رجال الأعمال الأتراك. بينما لا نلمس حماساً “أردوغانياً” هذه الأيام في التوجه أكثر صوب الغرب، بالرغم من أنه لم يتخلَ عن هدف الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولو أنّ عملية الدخول إليه تباطأت بشكلٍ كبير. فأردوغان يعتمد سياسة مدّ اليد إلى الشرق من دون أن يدير ظهره إلى أوروبا، بينما لغولن نظرة أخرى تعتبر أن تركيا كانت دائماً جزءً من الغرب ويجب أن تبقى كذلك.
مقارنة بين الرجلين، يبدو “أردوغان” أكثر إهتماماً لإعلاء شأن تركيا ونفوذها الخارجي في الشرق، وأكثر تركيزاً على الإسلام السياسي كعامل يحدد سياسته وعلاقته في الدول والشعوب المحيطة، ومرد ذلك الى إنتماءه الى الطريقة الصوفية النقشبندية ذات الأصول والإمتدادات العربية. بينما، يبدو “غولن” أكثر انفتاحا على الصعيد الديني، لكن أكثر تشدداً على الصعيد القومي، تبعاً لإنتماءه للطريقة النورسية ذات المنشأ والإنتماء التركيين.
تتعدد الاختلافات النظرية بين الرجلين، لكن يبقى خلافهما رهن التطورات السياسية في تركيا مع اقتراب الانتخابات المحلية في آذار المقبل، لنرى مدى تأثير هذا الصراع على الناخبين والجمهور التركي. كذلك يُبرز هذا الصراع الإسلامي – الإسلامي التركي، نمطاً مغايراً عن الصراعات الإسلامية الدموية التي يعيشها المسلمون في الشرق العربي والفارسي بشكل عام. وكما كان الإسلام التركي عاملاً حداثياً في بناء تركيا الجديدة منذ عقد إلى الآن، تبقى القوى الإسلامية التركية لحظة خلافاتها، خصماً “شريفاً”، لا يتعدى الإختلاف الفكري والسياسي بين قواه إلى حدّ الاقتتال الأخوي.. أقله إلى الآن.
———————-