الطَيب والداعيّة: صراع الإسلاميين في تركيا

جو حمورة

بعيداً عن الضجيج الإعلامي والاتهامات التخوينية المضادة، يمكن مقاربة الصراع الأخير في تركيا، بين القوتين الإسلاميتين الأكبر فيها، تبعاً للخلفية الفكرية لكلٍ منهما. فما بدأ على شكل خلافٍ سياسي محدود بين طرفي النزاع، الأول ممثلاً برئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان وحزبه، والثاني بجماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، سرعان ما تحول إلى أزمة سياسية عميقة، كشفت النقاب عن الاختلاف الفكري الكبير الذي تعيشه أبرز القوى الإسلامية التركية.

فبعيداً عن الاستقطاب التقليدي في تركيا، ما بين العلمانيين والإسلاميين، أو المؤسسة العسكرية والسلطة المدنية، يدخل صراع  من نوع آخر إلى الساحة التركية من بابها العريض. هذا الصراع بين الطرفين الإسلاميين يبدو جديداً في دولة لطالما عانى إسلاميوها من قسوة العلمانيين والعسكريين عليهم. كما يبرز كم أصبحت القوى العلمانية التركية فاقدة للقدرة على التأثير في المجتمع أو الحياة السياسية، في ظل نظامٍ سياسي لا يزال في الاسم وبعض المضمون “علمانياً” لكنه محكوم بإسلام حداثي تأقلم مع الدولة والنظام السياسي دون أن يسعى لتغيره من فوق أو بالقوة.

ينتمي “غولن” التركي المولد والذي يعيش الآن في منفاه الإرادي في أميركا، إلى مدرسة المفكر الصوفي “بديع الزمان سعيد النورسي” (1877-1960)، المُنشئ للطريقة الصوفية المسماة بالنورسية. وقد راكم قوته الاجتماعية من خلال قطاع التعليم الذي عمل فيه منذ السبعينيات عبر إنشاء المدارس ودور الطلبة، ثم تمدد نفوذه إلى قطاع رجال الأعمال الأناضوليين والقطاع الإعلامي. كذلك استفادت حركته، المعروفة باسم “حزمت”، بين العام 2004 إلى الأمس القريب، من تحالفها مع حكم “أردوغان” في مواجهة المؤسسة العسكرية، لتتغلغل في أجهزة الدولة كالشرطة والقضاء والإدارة بشكل عام. حتى باتت “دولة ضمن الدولة” كما يحب الإعلام توصيف الجماعة، إشارة منه إلى قدراتها في تركيا ونفوذها فيها.

مظاهرة ضد الإسلاميان الأقوى في تركيا من بقايا اليسار التركي

مظاهرة ضد الإسلاميان الأقوى في تركيا من بقايا اليسار التركي

يعتبر “غولن” بأن الشعور الديني والنشاط الاجتماعي يسيران معاً في تناغم، كما يرى أنهما يتلائمان من دون وجود تناقض أو صراع بين القيم الثقافية الدينية والحقائق العلمية. كذلك يركّز على البعد الاجتماعي لأتباعه مبتعداً عن الانخراط في العمل السياسي بشكل صريح. بالإضافة إلى أنه لم يسعَ لبناء أو تبني إيديولوجية دينية أو سياسية محددة، بل سعى من خلال قوته الاجتماعية والمالية والمؤسساتية التي راكمها على مدى السنوات، إلى إظهار نموذج جديدٍ للإسلام في تركيا يتلاءم مع شروط الحداثة.

وتبعاً للتجربة التركية الحديثة، يعتبر “غولن” أن الإسلام التركي استطاع أن يكون حداثياً لأنه “طُعم” بالوطنية التركية، بينما لا يمكن بالنسبة له أن يكون الإسلام الفارسي أو العربي كذلك. فتختلف هذه النظرة الخاصة للتجربة الإسلامية التركية، مع نظرة “أردوغان”، ذو الخلفية الصوفية النقشبنديّة، حول مسألة الإسلام والحداثة. إذ يعتبر الأخير أن الإسلام يمكنه أن يكون حداثياً بغض النظر عن انتماءاته القومية.

كذلك يختلف الاثنان في النظرة للعلويين الأتراك (Alevis)، وهم غير العلويين العرب الموجودون في سوريا، حيث يعبّر”غولن” عن تأييده مطالبهم الثقافية والدينية في نظرة تسامح تجاههم، لاعتبارهم أتراكاً في القومية بالدرجة الأولى بغض النظر عن العامل الديني المختلف. في حين لا يبدي “أردوغان”استعداداً للاعتراف بهم كأكبر أقلية دينية ذات استقلال في إدارة شؤونها في تركيا، أو حتى بتصنيف أماكن عباداتهم بالأماكن الدينية.

أما في النظرة إلى الأكراد، فيبقى “غولن” مختلفاً معهم حول مطالبهم السياسية والثقافية لسبب اختلافهم القومي عن الأتراك. بينما لا يمانع “أردوغان” التعامل معهم تبعاً لانتمائهم الديني حصراً.

أما خارجياً، فإن “غولن” قليل التأيد والإعجاب بمد نفوذ تركيا في الشرق، بالرغم من استفادة حركته من النفوذ التركي لتوسيع نشاطاتها التعليمية خارج تركيا. كذلك فهو لا يؤيد السياسة “النيو-عثمانية” المتبعة من قبل “أردوغان” الساعية إلى عودة تركيا إلى الشرق بكل نفوذها السياسي وتأثيرها الثقافي. بينما يفضل “غولن” الانفتاح فقط على الجمهوريات التركية التي تسكنها شعوب ذو أصول تركمانية (أذربيجان، كرغزستان، كازاخستان، تركمنستان، أوزبكستان وجمهورية قبرص التركية). كذلك لم يتوانَ “غولن” في انتقاد سياسة رئيس الحكومة التركي في سوريا في أكثر من مناسبة، ملمحاً إلى فشلها وتأثيرها السلبي على التعايش بين الأتراك.

من ناحية أخرى فإن “غولن” يبدو أكثر حماساً في توجه تركيا إلى أوروبا، ويسعى جاهداً إلى تسهيل دخولها إلى الإتحاد الأوروبي عبر لقاءات له تحت عنوان “حوار الأديان” من جهة، إضافة لربط الاقتصاد التركي أكثر بالاقتصاد الأوروبي عبر تأثيره على تجمعات رجال الأعمال الأتراك. بينما لا نلمس حماساً “أردوغانياً” هذه الأيام في التوجه أكثر صوب الغرب، بالرغم من أنه لم يتخلَ عن هدف الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولو أنّ عملية الدخول إليه تباطأت بشكلٍ كبير. فأردوغان يعتمد سياسة مدّ اليد إلى الشرق من دون أن يدير ظهره إلى أوروبا، بينما لغولن نظرة أخرى تعتبر أن تركيا كانت دائماً جزءً من الغرب ويجب أن تبقى كذلك.

sufi dancing

suffi dancing

مقارنة بين الرجلين، يبدو “أردوغان” أكثر إهتماماً لإعلاء شأن تركيا ونفوذها الخارجي في الشرق، وأكثر تركيزاً على الإسلام السياسي كعامل يحدد سياسته وعلاقته في الدول والشعوب المحيطة، ومرد ذلك الى إنتماءه الى الطريقة الصوفية النقشبندية ذات الأصول والإمتدادات العربية. بينما، يبدو “غولن” أكثر انفتاحا على الصعيد الديني، لكن أكثر تشدداً على الصعيد القومي، تبعاً لإنتماءه للطريقة النورسية ذات المنشأ والإنتماء التركيين.

تتعدد الاختلافات النظرية بين الرجلين، لكن يبقى خلافهما رهن التطورات السياسية في تركيا مع اقتراب الانتخابات المحلية في آذار المقبل، لنرى مدى تأثير هذا الصراع على الناخبين والجمهور التركي. كذلك يُبرز هذا الصراع الإسلامي – الإسلامي التركي، نمطاً مغايراً عن الصراعات الإسلامية الدموية التي يعيشها المسلمون في الشرق العربي والفارسي بشكل عام. وكما كان الإسلام التركي عاملاً حداثياً في بناء تركيا الجديدة منذ عقد إلى الآن، تبقى القوى الإسلامية التركية لحظة خلافاتها، خصماً “شريفاً”، لا يتعدى الإختلاف الفكري والسياسي بين قواه إلى حدّ الاقتتال الأخوي.. أقله إلى الآن.

———————-

إقرأ أيضاً:

الطائفية في الأمثال الشعبية اللبنانية

مقالات عن تركيا 

يمكن الإطلاع على صور عن الحرب الأهلية اللبنانية هنا

صراع “أردوغان” و”غولن”.. و”الحليف” اللدود

جو حمورة

لم تكن نهاية العام 2013 سعيدة لرئيس الحكومة التركية، ولا يبدو أن العام الحالي سيكون كذلك. فصراعاً مستجداً لرجب طيب أردوغان مع جماعة الداعية الإسلامي “فتح الله غولن”، بدأ يهدد شعبيته. كذلك فإن غياب دعم رئيس الجمهورية التركية “عبدالله غول” له، قد يقوّض سلطته.

ما بدأ على شكل مشروع حكومي لإغلاق المدارس التحضيرية في تركيا الشهر الماضي، والتي تعود ملكية معظمها لجماعة “غولن”، سرعان ما تحول إلى أزمةٍ مفتوحة بين “أردوغان” والجماعة. فانتهى بذلك تحالفهما الناجح، الذي استطاع تقليم أظافر الجيش التركي عبر إخراجه من الأروقة السياسية وإعادته إلى ثكناته العسكرية.

رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والداعية الإسلامية فتح الله غولن أيام التحالف.

رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والداعية الإسلامية فتح الله غولن أيام التحالف.

رداً على مشروع إغلاق مدارسها، سربت الجماعة للإعلام فضائح فساد مالية تطال مقربين من الحكومة، بينهم أبناء ثلاثة وزراء وابن “أردوغان” بلال. فاستعرت الاتهامات “التخوينية” بين الطرفين، خاصة وأن معظم الإعلام التركي واقع تحت سيطرة الحزب الحاكم أو تعود ملكيته لجماعة “غولن”. أما القسم العلماني من الإعلام، فدخل معركة الاتهامات إلى جانب الأخير، معتبراً أن فرصة الانقضاض على الحزب الحاكم بدت سانحة أكثر من أي يومٍ مضى. فتكللت تباشيرها الأولى باستقالة ثلاثة وزراء من الحكومة وسبعة نوابٍ من الحزب، وبضعة مظاهرات ليلية تندد بفساد الدولة.

استوجب استقالة الوزراء تغير “أردوغان” لحكومته، فانتقل معها الصراع بين الطرفين إلى مستوى آخر. حيث عمدت إلى نقل وطرد مئات رؤساء الشرطة والإداريين الموالين للجماعة، بعد أن تغلغل أنصارها إلى أجهزة الدولة المختلفة مستفيدة من تحالفها مع الحزب الحكم سابقاً، حتى باتت توصف “بالدولة ضمن الدولة”.

وعلى الرغم من قدراتها الشعبية والانتخابية المحدودة، إلا أن قوة جماعة “غولن” الحقيقية تبرز من خلال شبكة نفوذها في تركيا، والتي عملت ضمن نمطٍ متكامل في استغلال كل ما تملك لمحاربة السلطة خلال الشهر الماضي. فكان “إداريوها” يسربون قضايا الفساد الحكومي لإعلامها، ثم تقوم “شرطتها” بالقبض على الموالين للحكومة ليعودوا ويحولوهم إلى “قضاتها”. ما استدعى ضغطاً حكومياً على القضاء التركي بعد تسريبه تفاصيل التحقيقات في قضايا الفساد، تبعه موقفٍ يتيم من الرئيس التركي مطالباً بعدم تدخل السياسة في عمل القضاء. فشكل هذا الموقف “الحيادي” لرئيس الجمهورية “الحَكَم”، مع ميلٍ لصالح كشف كل المتورطين في أزمات الفساد، ما يمكن وصفه بنقطة تحول في خطابه المعتاد على دعم الحكومة وحليفه “أردوغان”.

أما الخلاف بين الجماعة وأردوغان، وعدى الصراع على النفوذ، فيعود في عمقه، إلى الخلاف بنظرتهما للإسلام وعلاقة القوى الدينية والقومية في تركيا، ودور الدولة الخارجي.

للجماعة خلفية نورسيّة، وهي الطريقة الصوفية “المطَعّمة” بالوطنية التركية، والتي ترى، حسب “غولن” نفسه، أن الإسلام التركي حداثي لأنه تركي، بينما الإسلام العربي والفارسي لا يمكنه أن يكون كذلك. فتختلف هذه النظرة الخاصة للتجربة الإسلامية مع توجه”أردوغان” ومعظم حزبه، ذو الخلفية الصوفية النقشبنديّة، الذي يرون أن الإسلام يمكنه أن يكون حداثي بغض النظر عن الوطنية.

كذلك يختلف الاثنان في النظرة للعلويين الأتراك، حيث يعبّر”غولن” عن تأيده لمطالبهم، في حين لا يبدي “أردوغان” استعداداً للاعتراف بهم كأقلية دينية مستقلة في تركيا. كذلك، يبقى “غولن” بعيداً عن الأكراد ومختلفاً مع مطالبهم السياسية والثقافية لأسباب قومية، بينما لا يمانع “أردوغان” التعامل معهم تبعاً لانتمائهم الديني حصراً.

هذه الاختلافات الفكرية بين الفريقين الإسلامييّن الأقوى في تركيا، تصبح مثيرة عند مقارنتها بانتماء وآراء “غول”. إذ يبدو بمواقفه الأكثر اعتدالاً إسلامياً، وتعاطفاً مع العلويين وغير المكترث لنفوذ تركيا عند العرب، أقرب إلى “غولن” منه إلى “أردوغان”. وجميعها أسباباً كافية لعدم دخوله طرفاً في الدفاع عن الأخير.

سبب آخر قد يكون الدافع في تريث “غول” وابتعاده التدريجي عن “أردوغان”، ويعود إلى أن الأخير ينوي الترشح لرئاسة الجمهورية التركية في الصيف المقبل. وهو الأمر الذي يحق دستورياً للرئيس الحالي أيضاً.

فتبعاً للنظام الداخلي لحزب “العدالة والتنمية”، لم يعد يحق لرئيسه الترشح لولاية نيابية أخرى، في بلدٍ يكون فيه رئيس أي حكومة هو ذاته رئيس أكبر كتلة نيابية. كذلك فقد عبّر “أردوغان” علناً، ولأكثر من مرة، عن أن لا رجوع عن النظام الداخلي لحزبه. فبات الرجل الأقوى في تركيا أمام حلين لا ثالث لهما، فإما أن يخوض الانتخابات الرئاسية أو اعتزال العمل السياسي. ما يعني، أن احتمال منازلة الرئيسين الحاليين في الصيف المقبل على موقع رئاسة الجمهورية، قد بات شبه مؤكد.

قبل موعد هذه الانتخابات المنتظرة، والتي ستكون عبر الانتخاب المباشر لأول مرة في تاريخ تركيا، لرئيس الحكومة وحزبه موعد مع الانتخابات المحلية في الـ 30 من آذار المقبل. والتي تحمل طابع الأهمية في مستقبل تركيا، لأنها ستكون مقدمة لمعرفة نبض الشارع التركي تجاه استمرار حكم الحزب الحاكم، ومؤشراً مهم لمدى قبول “أردوغان” ليكمل حكمه مستقبلا في السدة الرئاسية الأولى. لذلك لا يبدو أن “غول” مستعداً لإنقاذ “حليفه” من ورطته قبل الانتخابات، فوصول “أردوغان” إلى انتخابات رئاسة الجمهورية منهكاً وفاقداً للكثير من شعبيته يصبّ في مصلحته.

تتجمع المؤشرات بأن مستقبل “أردوغان” السياسي بات في خطر، خاصة أن الصراع الحالي بين الحزب الحاكم وجماعة “غولن” سيكون وقعه جلياً في صناديق الاقتراع، بعد تسريب نيتها مقاطعة الانتخابات على الأقل، بعد أن كان أعضاءها يدعمون مرشحي الحزب في كل استحقاق انتخابي. كذلك، فإن تحالف حزب “الشعب الجمهوري” العلماني والمعارض الأساسي مع بعض الأحزاب الكردية والشبابية في المدن الكبرى، قد بات قيد التداول، ما يشكل خطراً على إمكانية نجاح الحزب الحاكم أو أقله يجعله يحقق فوزاً عادياً، قبل المنازلة بين “الحليفين” اللدودين في الصيف المقبل.

———————-

إقرأ أيضاً:

الطائفية في الأمثال الشعبية اللبنانية

يمكن الإطلاع على صور عن الحرب اللبنانية هنا

مقالات عن تركيا 

قد صمد أردوغان، ماذا عن الاقتصاد التركي؟

جو حمورة

أكثر من 15 خطاب متلفز في أسبوع واحد، لم تنفع “رجب طيب أردوغان” حتى الآن في تهدئة الجمهور التركي أو أسواق تركيا المالية. فبعد أزمة فضيحة الفساد التي عصفت بتركيا منذ شهر ديسمبر، والأزمة السياسية بين جماعة الداعية الإسلامي”فتح الله غولن” ورئيس الحكومة وحزبه، خسرت الأسواق التركية حتى الآن، بحسب نائب رئيس الحكومة “بولنت أرنتش”، 100 مليار دولار.

في العمق، يعود جزء من الأزمة بين الطرفين إلى الاختلاف بين الخلفية النورسية للجماعة، والخلفية النقشبندية لأردوغان والحزب الحاكم. كذلك، وعدى الصراع الخفي بين المدارس الصوفية في تركيا، يعود الخلاف في الظاهر بينهما للصراع على النفوذ والسلطة ورؤيتهما المغايرة لتركيا ودورها.
منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” للحكم عام  2002، تحالف الطرفان معاً، واستطاعا سوياً “ترويض” المؤسسة العسكرية التركية وإبعادها عن التأثير في الحياة السياسية، بعدما توجا تحالفهما بنجاح الاستفتاء على التعديلات الدستورية عام 2010. خلال هذه الفترة استفادت الجماعة، تبعاً لتحالفها مع السلطة، لتتغلغل بقوة في أجهزة الدولة كالقضاء والشرطة كما في الإعلام، ووسعت نشاطاتها الاقتصادية والتعليمية بشكل كبير.

هذا التضخم لنفوذ الجماعة في الدولة وحتى داخل أروقة الحزب الحاكم، تنبه له الأخير قبل فوات الأوان فأخذ قراراً بإضعافها عبر بتر عامودها الفقري، وهو القطاع التربوي، إذ أن الجماعة تمتلك حوالي الألف مدرسة وعشرات الجامعات المنتشرة في تركيا ودولٍ أخرى. كذلك يسعى الحزب في خطوته هذه، للتخلص من ابتزاز الجماعة له وهو على أبواب انتخابات محلية مفصلية قد تكون مقدمة لتغير الدستور التركي لجعل النظام التركي رئاسي في حال فوز الحزب الحاكم فيها بنسبة كبيرة، توطئة لترشح أردوغان نفسه لرئاسة الجمهورية في الصيف القادم.

البورصة التركية

البورصة التركية

إلى الآن، بلغ الصراع بين الطرفين ذروته مع قرار الحكومة التركية إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي تملك معظمها جماعة “غولن”، والتي تشكل مصدر ربحٍ كبير لها ومجالاً حيوياً للتأثير الاجتماعي. ردت الجماعة بشكل غير مباشر، عبر تسريب وثائق الفساد التي تطال مقربين من الحزب الحاكم بينهم أبناء ثلاث وزراء، تبعها قيام الأخير باستبعاد مئات مدراء الشرطة والإداريين الكبار والموظفين المحسوبين على جماعة “غولن”، بالتوازي مع استقالة ثلاث وزراء من الحكومة التركية وسبعة نواب منه إلى اليوم.

كل هذا الصراع، وأشكاله، لم يوفر الاقتصاد التركي، فتراجعت قيمة الليرة التركية من 2.04 إلى 2.18 مقابل الدولار خلال نصف شهر، كما تراجعت بورصة إسطنبول بأكبر نسبة لها منذ آب 2012. كذلك أدت فضيحة الفساد لإفقاد تركيا السمعة الطيبة التي كانت تتمتع بها في موضوع استقرار الأسواق والإدارة الجيدة للاقتصاد منذ 10 سنوات حتى الأمس القريب.

برز الاقتصاد التركي، في الوثبة التي قام بها والتي عززت قوة تركيا الإقليمية في العقد الأخير، كأحد أهم أسباب نجاح أردوغان وحزبه واستمرارهم في السلطة لمدة 11 عاما.ً لكن يبدو أن شيئاً ما على وشك التغير، فسياسة تركيا الخارجية تراجعت نجاحاتها منذ حلول “الربيع العربي”  وتوجت بخسارتها حليفها “إلإخواني” في مصر. كذلك فإن الأزمة السياسية – الاجتماعية التي اجتاحت تركيا مع مظاهرات منتزه “جيزي” السنة الماضية، لا تزال ذيولها ظاهرة للعيان لكل متتبع لشؤون تركيا الداخلية، يضاف عليها المشاكل الداخلية الدائمة والخفية في تركيا كالمسألة الكردية والقضية العلوية. لذلك فإن كل هذه الأزمات، قد تؤدي حين يقع الاقتصاد التركي فريسة الصراعات الداخلية بين القوى الإسلامية إلى تهديد حكم حزب “العدالة والتنمية”  بشكلٍ جدي.

بالرغم مما جرى، لا يزال أردوغان وحزبه أقوياء في تركيا، خاصة وأن أخصامه الجدد، جماعة “فتح الله غولن”، يفتقرون للتأيد الشعبي الكبير أو القدرة الانتخابية وإن كانوا يملكون الكثير من مراكز النفوذ في الإدارة والإعلام وفي أوساط رجال الأعمال. من ناحية أخرى تبدو الأحزاب اليسارية والعلمانية التقليدية ضعيفة، وتفتقر للبرامج وتعيش خارج الزمن التركي الجديد. لذا يبدو أن أردوغان سيبقى في الحكم بسبب غياب بديلٍ واضح عنه إضافة لضعف خصومه الداخليين، فلا إمكانية لأحد بإسقاطه اليوم طالما لم تعصف بتركيا بعد أزمة مالية واقتصادية حادة وعميقة تدفع الأتراك للبحث عن قيادة جديدة. فكما كان نجاح الاقتصاد التركي سبباً أساسياً لبقاءه في السلطة، يبدو أن احتمال فشل الاقتصاد سيكون السبب في خسارته لها، وهذا الأمر يحتاج للوقت ليتحقق ولم ينضج بعد.

بوادر أزمة اقتصادية بدأت تلوح في الأفق التركي، خاصة وأن الصدّام بين الجماعتين لا يبدو أنه سيتوقف في القريب العاجل، فبعد انخفاض سوق الأسهم التركية بما يقارب الـ20% من قيمتها، وانخفاض القيمة السوقية للشركات التركية المدرجة بـ49 مليار دولار في اليوم الأخير من العام الماضي، يبدو أن المؤشرات الأولية بدأت تنضج لهروب رؤوس الأموال من تركيا. وهذا إن حصل سيتبعه بداية تباطؤ حاد في النمو التركي ما قد يكلف الحكم التركي الحالي سلطته.

يخوض أردوغان في الأشهر الثلاث القادمة، وإلى حين فرز صناديق اقتراع الانتخابات المحلية عشية 30 آذار 2014، معاركه السياسية على مستويات عدة، أبرزها معركة تثبيت الاقتصاد التركي حفاظاً على مواقع حزبه في السلطة والإدارات المحلية، وتحضيراً لمعركته اللاحقة لإقرار دستورٍ جديدٍ للبلاد وللانتخابات الرئاسية. أما جماعة “غولن” فمعركتها القادمة ستكون عبر حجب أصواتها عن مرشحي الحزب وصولاً إلى استخدام إعلامها القوي لمحاربته. والأهم فضح المزيد من الفساد داخل الإدارة والحكومة التركية وقطاعاتها المالية، ما قد يساهم في تعزيز فرضية بداية انهيار الاقتصاد التركي، ليؤدي، في نهاية المطاف، إلى تغير السلطة الحالية ما يبرر القلق الحقيقي للمستثمرين الأجانب الذين استفادوا من ليبرالية الحزب الحاكم المفرطة على مدى العشر سنوات الأخيرة.

نشرت أولا في موقع النشرة

———————-

إقرأ أيضاً:

الطائفية في الأمثال الشعبية اللبنانية

مقالات عن تركيا 

صحافيو تركيا: إلى السجن دُر!

جو حمورة

مظاهرة فجائية وسط البلاد، فضيحة فساد مرتبطة بحزبٍ حاكم أو معلوماتٍ مسربة لخطة حكومية. كل هذه الأحداث بمثابة “حلم” للمحققين الصحافيين حول العالم. فأي فرصة أفضل للتقدم الوظيفي وإعلام الرأي العام، من هبوب عاصفة سياسية عارمة أو فضيحة فساد مدوية تجتاح البلاد.

هذا في العالم، أما في تركيا فالتحقيق الصحافي في هكذا مواضيع يبدد أحلام صحافييها، ويحولها إلى كوابيس وراء قضبان “العدالة”، أو أقله يجعلهم فريسة ضغوطات الأمن التركي ويخسرون لوظائفهم.

كمسيرة إستعراضٍ عسكري عثماني، تتقدم الحريات الصحافية في تركيا خطوة إلى الأمام، وخطوتين إلى الوراء. ولا يبدو أن الأمور تتجه إلى التحسن، فتركيا الدولة “النموذج” في القدرة العسكرية والقوة الاقتصادية إقليمياً، تتربع عالمياً، وللسنة الثانية على التوالي، على لائحة الدول الأكثر احتجازاً للصحافيين في سجونها.

مظاهرة في تركيا تحمل أسماء الصحافيين الاتراك المعتقلين دعماً لهم

مظاهرة في تركيا تحمل أسماء الصحافيين الاتراك المعتقلين دعماً لهم

مع بداية العام 2014، يمكن لرئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان، “التفاخر” كالعادة بما حققه لتركيا خلال عقد من الزمن. فبعدما كان عدد الصحافيين المحتجزين في تركيا 49 العام الماضي، باتوا اليوم 40، أي ما يوازي 20 في المئة من كل الصحافيين الـ211 المعتقلين حول العالم. فتصدرت بذلك تركيا على كلٍ من إيران والصين في اعتقال العاملين في حقل الإعلام، حسب التقرير السنوي للجنة الدولية لحماية الصحافيين.

أما أسباب الاعتقال فتعود بمعظمهما لارتباطهم بقضية “أرغنكون”، وهي خطة الانقلاب السرية للجيش التركي على الحزب الحاكم. فحاكمت السلطة مدبريها المفترضين، وتباعاً بعض الصحافيين ذوي الميول العلمانية. فأضعفت بالتالي العسكر والصحافيين المناوئين للإسلام السياسي الحاكم في آنٍ واحد. كذلك، فإن قسماً آخر من الصحافيين، إعتقل بتهمة الترويج لحزب “العمال الكردستاني”، وهي تهمة جاهزة تنتظر أي منتقدٍ لتعامل تركيا مع أكرادها.

أما القسم الأخير منهم، والأقل عدداً، فلقي مصيره وراء القضبان “بتهمة” تعاطفه العام الماضي مع متظاهري ميدان ” تقسيم”. وتعود ضآلة العدد إلى حرج تركيا أمام العالم خلال هذه الأحداث. لذلك اعتمدت أسلوباً مغايراً لإسكات الصحافيين، يبدأ بالضغط على أصحاب المؤسسات الصحافية لينتهي بطرد الصحافي. وهذا ما تعرض له 72 منهم منذ ستة أشهر الى اليوم.

تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة: حرية الصحافة التركية في خطر. وردّ الحكومة الوحيد حول القضية يتلخص بالتالي: “هؤلاء ليسوا صحافيين بل متواطئون مع الإرهاب، ولا يريدون خيراً لتركيا”.

أمام تبرير السلطة هذا، تضمحل حريات العمل الصحافي والحريات العامة الى حدودها الدنيا. ويتحول الصحافيون الأتراك اليوم الى أدواتٍ للإشتباك السياسي، على أثر الصراع الحالي بين أردوغان وجماعة الداعية الإسلامي “فتح الله غولن”، ذات النفوذ القوي في القطاع التربوي والإعلامي.

فكانت أولى ضحايا الإشتباك هذا، الصحافية في جريدة “صباح” الموالية، نازلي إيليجالك. إذ تم طردها من الصحيفة بسبب تأييدها للجماعة، فأنهت مسيرتها بتغريدها على التويتر: “بدلاً من التنازل عن قناعاتي، تنازلت عن وظيفتي”. وهذا ما دفع رئيس قسم الإعلام في جامعة إسطنبول، آصلي تونك، إلى إعتبار وسائل الإعلام التركية مخدوعة بالحرية التي تمتلكها، فاتصال واحد من مكتب أردوغان يلقي بأي موظف في الشارع.

ضحية أخرى ولن تكون الأخيرة: الصحافي في جريدة “طرف” اليسارية، محمد برانسو. وذلك بعدما سرب وثيقة تؤكد طلب الحزب الحاكم من الأمن محاربة مدارس جماعة “غولن” والتنصت عليهم من دون سندٍ قانوني. لم ينتهِ برانسو في الشارع كزملائه، بل في مكاتب التحقيق، ليواجه دعوى قضائية من الحزب. ومما يدعو للسخرية أن الحزب لم يبرر المعلومات المسربّة والممهورة بإمضاء رسمي.

وتنديداً بتصرفات السلطة التركية مع الصحافيين، تتعالى من حين إلى آخر أصوات الجمعيات المحلية والأوروبية، لكن من دون صدى. ولا يوفر رئيس إتحاد الصحافيين الأوروبيين، موغنز بلشر، جهداً في شكوى تركيا الى مؤسسات الاتحاد الاوروبي، حيث يعتبر “أن الأحكام على الصحافيين مخزية لجهاز تركيا القضائي، وتعبير عن سلطة الحكومة المطلقة، وعدم تقبلها لأي شكل من أشكال الإنتقاد”.

هذه المواقف لا تغير الكثير في مشهد حرية الصحافة التركية. فالصحافي “المُضطهد” لا يحتاج الى خطابات، بل الى من يحميه من نظام حديدي، يرى بقاءه فترة الأزمات مرتبطاً بقدرته على إسكات صحافيي بلاده النقديين.

نشرت أولاً في جريدة المدن الإلكترونية

———————-

إقرأ أيضاً:

الطائفية في الأمثال الشعبية اللبنانية

مقالات عن تركيا