لا يمر أسبوع في تركيا، من دون أن يضج إعلامها بالحديث عن قضية فسادٍ حكومي جديدة. ما عاد الأمر مفاجئاً للأتراك، فمنذ 17 كانون الثاني/ديسمبر الماضي، تتوالى قضايا الفساد الواحدة تلو الأخرى، وآخرها تلك المرتبطة بصفقة شراء المؤسسات الإعلامية بين إبن رجب طيب أردوغان، بلال، ورجال أعمال.
تحاول المعارضة التركية إستغلال الظرف، لكنها تغرق في ردة فعلٍ ولا تنجح في تقديم مشروع بديل للجمهور. بينما يقوم الحزب الحاكم بهجومٍ مضاد، يبدأ بالضغط على الإعلاميين وطرد للإداريين “المعادين” له، وينتهي بتعديلات قانونية لتقليص هامش حرية معارضيه، وآخرها إقتراح لفرض رقابة صارمة على الإنترنت.
فخلال هذا الأسبوع سيُعرض على البرلمان التركي مشروع تعديلات على بنود القانون المعروف بالرقم 5651. وهو القانون الذي كان قد أقر العام 2007 “لينظم” الشبكة العنكبوتية في تركيا. حينها دعى البرلمان الأوروبي لإلغاءه “لأنه يحد من حرية التعبير ويقيد حقوق المواطنين فى الوصول إلى المعلومات”. أما اليوم فيبدو أن التعديلات المقترحة من الحزب الحاكم تهدد الحريات في تركيا بشكل خطير.
بمجملها، تُعطي التعديلات المقترحة الحق لمديرية الإتصالات تركيا (TIB) بحجب أي موقع تريده من دون الحصول على حكم قضائي مسبق بذلك. هذا “الحق” تبرره الحكومة بحجة “عدم التعرض لخصوصية حياة الأفراد”، وهو ما يفسره الكثيرون، ومنهم رئيس مجلس الصحافة التركي، بينار تورنتش، “بأنه بدعة تهدف الى منع الإعلام من فضح الفاسدين تحت شعار حماية سمعتهم”، متسائلاً عن توقيت طرح التعديلات المتناسب مع فضح الإعلام الإلكتروني للعديد من قضايا الفساد.
أما الأخطر في التعديلات، فهو حق المديرية نفسها بالإطلاع على مضمون الحسابات الشخصية لكل مستخدمين الشبكة، وذلك تحت طائلة العقوبات المالية والسجن للممتنعين. كذلك إلزام مزودي خدمة الإنترنت بالإنضمام الى إتحاد خاص سيتم إنشاءه في المستقبل، يكون، بطريقة أو أخرى، تحت إشراف الحكومة.
كل هذه التعديلات المقترحة، دفعت بالمنظمات الدولية والمحلية المهتمة بحرية الرأي والصحافة، لشحذ الهمم والقيام بما تجيده؛ إصدار البيانات. فاعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود”، على لسان رئيس مكتبها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى جوان بيهر، أن “المشروع المطروح يهدد بتشديد الرقابة والسيطرة الحكومية على الانترنت كما مراقبة المواطنين”. كذلك اعتبر “المعهد الدولي للصحافة” أن المشروع سيجعل من الديمقراطية التركية تتراجع في تشجيع حكومي واضح للرقابة الذاتية على مستخدمي الإنترنت ومزوديها.
في المقابل يستعجل الحزب الحاكم فرض الرقابة على المواقع الإلكترونية، وذلك لأن تجربة مظاهرات “تقسيم”، المنبثقة عن نضالٍ في العالم الإفتراضي، لا تزال شاخصة في الأذهان. كذلك فإن سرعة تسريب قضايا الفساد لا شك تزعجه قبل الإنتخابات المحلية بأقل من شهرين. لذا بدأت الحكومة “تطبيق القانون” قبل تصديقه من البرلمان، فحجبت بعض المواقع الإخبارية المشهورة مثل “فاغوس” و “فيميو”، ولم تبقِ لأصحابها سوى نعمة التغريد على تويتر: “…كل من يحارب الحكومة في قضايا الفساد يتعرض بدوره للمحاربة”.
وتشير التقارير الواردة من أنقرة الى ان التعديلات المقترحة ستمر في البرلمان، لذلك لم يتحمس الأتراك للتظاهر ضد المشروع المطروح، إلا بشكل محدود. فتظاهراتهم السابقة لم تغير الكثير في قرارات الحكومة، فعمدوا هذه المرة للتوجه الى رئيس الجمهورية، عبد الله غول، عبر دعوته لعدم توقيع التعديل القانوني، وهو حق دستوري للرئيس برغم محدودية صلاحياته. فقام الأتراك، وبالتعاون مع منظمات أجنبية لمنع الحظر الإلكتروني، بإنشاء صفحة خاصة على إحدى مواقعها تتيح لهم مراسلة غول لحثه على عدم إمهار التعديلات بإمضاءه، على الرغم من أن أمل خروجه عن بيت الطاعة “الأردوغاني” محدود.
شيئاً فشيئاً تضمحل الحريات في تركيا، ويتجه الأتراك أكثر صوب سطوة المؤسسات الحكومية على كل الفضاء العام والخاص في البلاد، وكل ذلك من أجل الحفاظ على السلطة وإخضاع الأخرين لها. من ناحية أخرى، لا يرقى أي ردٍ معارض الى مستوى الحدث، فمحاربة سلطة قوية وقوانينها على وسائل التواصل الإجتماعي وبالبيانات، فقط، لا يفيد.
نشرت أولاً في جريدة المدن الإلكترونية
———————-