كيف يتعامل الإعلام التركي مع إنفجاراته؟


جو حمورة

Ambulance cars arrive at Turkey's largest airport, Istanbul Ataturk

Ambulance cars arrive at Turkey’s largest airport, Istanbul Ataturk, Turkey, following a blast June 28, 2016.

لبنان، سوريا، العراق وتركيا. الإرهابيون يتجولون بيننا بحرية، وسيئو الحظ يموتون بالعشرات. بات الشرق الأوسط حمام دم لا ينتهي، وحفلات الجنون ورقصات الموت لا توفر أحداً. السياسي يستغل كل انفجار لإنتقاد خصمه أو للحصول على مزيد من الشهرة، فيما الإعلام يبث الرعب حيناً والطمأنينة أحياناً أخرى في قلوب المتابعين.

لا إعلاميين في تركيا يهرولون إلى مكان الجريمة للحصول على “سكوب”.. ولا اعلاميات يلحقنّ بالمصابين الى المستشفيات لسؤالهم عن “شعورهم”. الإعلام الرسمي وفرق الإسعاف وأجهزة الدولة الأمنية، وحدهم يتصدرون المشهد، وشوهدوا في الإنفجار الأخير الذي وقع في مطار أتاتورك الدولي، والذي راح ضحيته حوالى 40 بريئاً.

للإعلام الرسمي حصة الأسد من أي حدث ضخم يهز البلاد. هو أول الواصلين وآخر المغادرين. وهو الذي يبث ما يريده وما يجب أن يطلع عليه الناس، وما الذي يبقيه من “أسرار الدولة”. لا مشاهد دم على شاشات التلفزة، ولا جثث مقطعة الأوصال على نشرات الأخبار. وهذه طبعاً أصول المهنة التي لا يختلف حولها أحد. بل هي أخبار سريعة تقدم للمتابع آخر التطورات باحترافية، وبث للطمأنينة في رسائل نصية سريعة.

هذه هي السياسة الإعلامية الرسمية للدولة في حالات الطوارئ، إلا أن الأمور غالباً ما تخرج عن السيطرة. إذ يكفي أن يُرفع في “فيسبوك” فيديو للإنفجار التقطه بالصدفة أحد المسافرين، أو هاوي تصوير يظهر القتلى في “تويتر”، حتى يُفسدا كامل سياسة الدولة. فما أن تمر دقائق معدودة حتى يكون الفيديو والصور قد تمت مشاركتهما مئات آلاف المرات، فتصبح مشاهد الإنفجار قيد التدوال بين الجميع.

مع بروز أخبار الإنفجار وصوره، يُصبح هامش النشر أكبر للإعلام المعارض. النقل عن وسائل التواصل الإجتماعية يتسرب إلى الإعلام الخاص، ثم يتبعه الإعلام العالمي. في حين تقف الدولة وإعلامها الرسمي حائرين أمام خيارين، إما اللحاق بركب الإعلام الخاص ووسائل التواصل الإجتماعية التي لا تترك لحرمة الموت من قدسية، أو دفن الرأس في التراب من دون إظهار أي مشهد واضح للإنفجار. فتقرر الدولة أخذ قرار حظر مؤقت على نشر أي خبر يتعلق بالهجوم على مطار أتاتورك لوقف حفلة الجنون غير المضبوطة.

وكانت “الهيئة العليا للإذاعة والتلفزيون” التركية قد أعلنت حظراً على نشر أي من الأخبار الخاصة والإضافية على وسائل الإعلام بعد خروج الأمور عن السيطرة. في حين باتت وسائل التواصل الإجتماعية بطيئة، وولوجها صعب هذه المرة، على عكس الإقفال التام الذي تعرضت له خلال الإنفجارات السابقة في أنقرة وسوروج العام الماضي.

وتهدف سياسة الحظر المؤقت إلى التخفيف من وطأة الحدث من ناحية، والحفاظ على هيبة السلطة من ناحية أخرى. فالإعلام التركي المعارض لديه ميل دائم خلال الأحداث الدموية إلى بث المزيد من الصور والمشاهد واستضافة محللين وسياسيين يحمّلون مسؤولية الإنفجار لسياسات السلطة الحاكمة. بينما، في المقابل، يعمد الموالون للسلطة إلى استخدام الحجج نفسها تقريباً لكن عبر توجيه الإتهام للأحزاب المعارضة بإضعاف وحدة البلاد.

أما لمواجهة الإعلام الخاص، فوقع الإختيار، هذه المرة، على كبير مستشاري الرئيس التركي “ييت بولوت”. فاعتبر هذا الأخير خلال إطلالة إعلامية له بعد الإنفجار “أن بث تقارير مضخمة بعد كل تفجير يُظهر لا اخلاقية بعض المؤسسات الإعلامية، وعدم إحترافيتها في مجال الصحافة”، داعياً إلى تطبيق قرار “الهيئة العليا للإذاعة والتلفزيون” فوراً. وإذا كان مبدأ احترام الإنسان، حتى في موته، هو المبدأ الأخلاقي الواجب، فإنه قد يتم تسييسه من قبل طرفي الخصومة في الداخل التركي.

و”للهيئة العليا” صلاحيات واسعة على الإعلام التركي في الأيام العادية كما في فترات الأزمات. وهي عمدت، أكثر من مرة، إلى حظر النشر في أمور عديدة، كقضايا فساد بعض المسؤولين الكبار، ونشاطات عسكرية للجيش التركي وغيرها. في حين تتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة تجعل من أي مؤسسة إعلامية عنيدة محكومة بالتعرض لعقوبات تبدأ بغرامات مالية ضخمة وتنتهي بالإقفال التام، الأمر الذي يدفع وسائل الإعلام إلى أخذ تحذيراتها دائماً على محمل الجد.

بعد “تهديد” المستشار التركي، وصدور قرار الهيئة، عاد الإعلام الرسمي ليسيطر على أخبار الإنفجار، فيما وقف الإعلام الخاص، والمعارض، خلفه مردداً أخباره والمشاهد التي يبثها حصراً. في حين بقيت وسائل التواصل الإجتماعية تغرد، وإن ببطء، على راحتها، وتبث كل ما تجده من أشلاء ودمار على هواتف الناس من دون مسؤولية تذكر أو إحترام للضحايا.

وبذلك، يصبح الحظر، وكسره أيضاً، أمرين مشوبين بإشكاليات أخلاقية ومهنية وسياسية.

نشرت أولاً في جريدة المدن الإلكترونية

Leave a Comment