في نفس اليوم الذي كان فيه الاخوان «كواشي» يقتحمان مقر مجلة «شارلي إيبدو» الباريسية لقتل رساميها، كان الروائي الفرنسي «ميشال ويلبيك» على موعد مع إصدار كتابه الجديد الذي حمل عنوان «استسلام» (Soumission). ومع انقشاع غبار الحدثين المتزامنين بعد يومين، كانت المحصّلة سقوط 17 قتيلاً فرنسياً، فيما بيع حوالى 250 ألف نسخة من كتاب «ويلبيك».
يَروي كتاب «استسلام» سيناريو «خياليًا» تجري أحداثه في فرنسا عام 2022، حيث يتنافس حزب إسلامي فرنسي مع حزب اليمين المتطرف على رئاسة الجمهورية الفرنسية. وفيما يفنّد الكاتب كلًا من قيم ومبادئ الإسلاميين واليمين الفرنسي من ناحية، وهوية فرنسا وقيمها من ناحية أخرى، كشف «ويلبيك» في مقابلة له أنه «يلعب على وتر الخوف»، مؤكدًا أن مضمون ما يرد في كتابه ليس إلّا «تسريعًا للتاريخ».
لا يبدو إصدار هذا الكتاب-الحدث في مضمونه وتوقيته إلّا تعزيزًا لما بات بارزًا وملموسًا في فرنسا: الخوف من «الآخر». وهو خوف تعزّز مع الجريمة التي طالت مجلة «شارلي إيبدو»، حيث بات باستطاعة اليمين استغلاله والقول للفرنسيين: «لقد حذرناكم من خطر الإسلام القادم من وراء البحار!»، كما العمل على زيادة شعبيته للظفر لاحقًا بالسلطة. كذلك، لا يمكن تغييب الخوف المقابل عن المشهد الفرنسي، حيث تبرز المشاعر الإسلامية المتراوحة بين هامشي الخوف من عدائية الغرب تجاه أسلوب حياته إلى حدّ الاعتداء عليه. فكان تسجيل نحو 50 اعتداءً على مراكز للمسلمين في فرنسا ليلة حادثة المجلة، دليل على درجة الاستقطاب التي يعانيها المجتمع الفرنسي بين عالمين في حالة أقرب إلى الحرب الأهلية غير المعلنة منها إلى حالة التعايش والاندماج. فيما يبدو أن الهاوية الفكرية بينهما تتسع باستمرار، ما يهدد الأمن الاجتماعي الفرنسي بشكل جدّي.
ليس ببعيد عن قطبية اليمين-الإسلام الناشئة، يبدو اليسار الفرنسيّ «الحاكم» مشاهدًا للأحداث لا طرفًا فيها. ويعاني هذا الحكم ضعفًا على مستويات عدة ناتجةٍ بشكلٍ أساسي عن هشاشة اليسار الفرنسي عينه. فزعيمه «فرنسوا هولاند» ضعيف سياسيًا، وغير مبادر في وجه الأزمات. كما يُبدي التحاقًا ذيليًا بالولايات المتحدة الأميركية يمنعه من إعطاء بلاده أي دور قياديٍّ، إلّا في بضعة كيلومترات مربعة من صحاري أفريقيا. من جهة أخرى، فإن الخلافات النيابية والحزبية بين الاشتراكيين أنفسهم، علاوةً على عدم بلورة أي خطة سياسة واضحة ومحدّدة تجاه الخطر الأمني والأصولي والديمغرافي في فرنسا، يجعلان من شعبية الحزب الحاكم في تراجع دائم. وبذلك، يصبح الحكم مكبّلاً ومتردّداً في سياساته، إذ ينتقل رويدًا رويدًا من حالة الجمود إلى حالة الفشل، فتتقلص شعبيته تباعاً، خصوصًا أنه يواجه اليمين الفرنسي التي تتعزز شعبيته يومًا بعد يوم.
على الضفة الأخرى، يبدو الجهاديون الإسلاميون المبادرون إلى الهجوم الباريسي أكثر حيوية وإدراكًا لما يفعلونه. ويُعطي الحدث الفرنسي مثالًا استثنائيًا لتعاون كل من «داعش» و«القاعدة» في ميدان الجهاد العالمي، وذلك على الرغم من قتالهما لبعضهما البعض على مجمل التراب السوري والعراقي الخارج عن سيطرة حكومتي البلدين. فرفيق الأخوين «كواشي»، «أميدي كوليبالي»، الذي قام بهاجمة متجر الأطعمة اليهودية في باريس «لمؤازرة» الهجوم الأول، كان قد بايع «داعش» قبل القيام بعمليته، فيما فرّت شريكته «حياة بومدين» إلى ربوع «الدولة الإسلامية» عبر تركيا. في المقابل، أعلن تنظيم القاعدة في اليمن عن تبنّيه لعملية «شارلي إيبدو»، بشكل يشبه التنسيق الميداني المُحكم بين التنظيمين الجهاديين.
هذا «الاستثناء الجهادي» سبقه اتفاق يتيم بين «داعش» و«جبهة النصرة» المبايعة للقاعدة، وهو يتعلق بمسألة العسكريين اللبنانيين المخطوفين في جرود بلدة عرسال اللبنانية، وآلية التفاوض للإفراج عنهم، فيما التنظيمان الجهاديان يتقاتلان على بُعد كيلومترات قليلة في القلمون للسيطرة على القرى والهضاب والأسلحة.
وفي ظل وحدة الجهاديين في الخارج من جهة، وانقسامات فرنسيي الداخل من جهة أخرى، يبلغ الانهزام الأوروبي-الغربي مداه مع فشل القضاء على «داعش» أو تقليص نفوذ الجهاديين في العالم. فيما يمكن ملاحظة سخرية المشهد المتعلق بمحاربة الإرهاب اليوم في محدودية تأثير الضربات العسكرية على تنظيم «الدولة الإسلامية»، حيث بات التنظيم يضرب بجرأة مشهودة أهدافًا له في قلب باريس.
ما عادت الحرب مع الإرهاب الجهادي تدور في أحياء «كوباني» المهجورة، أو في ريف إدلب الفارغ من سكانه، بل باتت مسألة عالمية شديدة الخطورة، نظرًا لامتلاك الجهاديين الإمكانيات البشرية والروح القتالية العالية المدفوعة بالعقيدة الدينية. فتتخطى بتأثيرها وردّات فعلها الحدود الترابية للدول ووجود الجماعات، لتتعداهما إلى جعل كل «آخر» في كل مكان هدفًا محتملًا.
أمام الفشل الغربي في محاربة الإرهاب، يبدو عنوان كتاب «ميشال ويلبيك» أكثر واقعية من قصته الخيالية لوصف حالة الغرب أمام الجهاديين العالميين اليوم، وهو وصف يصح القول فيه إنه «استسلام» شبه كامل. ففي الوقت الذي تقلع فيه طائرات أميركا ودول الخليج لتلقي بصواريخها فوق رؤوس عناصر «الدولة الإسلامية» دون نتيجة حاسمة، تقوم عشرات التنظيمات الصغيرة في ليبيا واليمن والمغرب ومصر وسوريا والعراق بمبايعة «داعش». كذلك، وخلال قيام الغرب بـ«استعراض» رؤسائه في شارع باريسي راقٍ، يبادر الجهاد العالميّ من جحوره للتحضير لهجمات جديدة، مستخدمًا عنصريّ المباغتة والقدرات البشرية بشكل غير تقليدي. فيما الغرب لا يزال يستعمل قدراته العسكرية التقليدية في محاربة الإرهاب، ولا يحقّق أي نجاح ملموس في ذلك. هو «استسلام» شبه تام وحيرة غربية في التعامل مع «الإرهاب» الذي يحدّد فيه الجهاديون أهدافهم الخارجية بشكل واضح، وينشئون وحدة في العمل فيما بينهم، بينما لا يزال حكّام فرنسا بين يسار ووسط ويمين في مرحلة الاختلاف النظري حول تسمية المعتدين عليهم ما بين «الإرهابيين» أو «المتشدّدين الإسلاميين» أو مجرد «المسلمين».
نشرت أولاً على موقع مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط
———————-
إقرأ أيضاً:
مقالات أخرى عن تركيا
يمكن الإطلاع على صور ناردة للحرب الأهلية اللبنانية هنا
وصور نادرة للشخصيات اللبنانية هنا