ثمانون من النضال: أنطوان نجم فيلسوف القضيّة اللبنانيّة

نديم يوسف البستاني

بغياب الاحتفالات والاستقبالات والتكريمات الفضفاضة، احتفل الأستاذ أنطوان نجم في الأسبوع الفائت بعيد مولده التاسع والسبعين وسط لفيف ضيق من الأصدقاء و المحبين. بالرغم من استحقاقه أسمى الحفاوة وأبهى المعايدات، إلا أنه منذ نشأته في الحياة السياسية والفكرية فضل التزهد والابتعاد عن الأضواء، حيث اصطفى ذاته للانخراط في غياهب العمل الملتزم، ما يلزم لإنجاح النتاج، وسط طقوس صارمة من النزاهة والترفع. وإن كانت الأضواء تنفر من كارهيها إلا أن الأنوار تتكوكب حول من كره الأضواء.

425189_10151614724974477_346449815_n

لقبه البعض، بضمير المقاومة اللبنانية والقضية اللبنانية، و لقبه آخرون بفيلسوف الفكر اللبناني للإنسانية، وصنفه البعض من صقور اليمين، وهته آخرون بما قد يعد مديحاً بأنه كاره الزعماء.
أعطاه بشير الجميل، وهو كان مستشاره الأول، كنية “نبتون” (تحببا)، أما هو فاستخدم فيما مضى اسم ” أمين ناجي” كاسم مستعار، مفسرا الأمر بقوله اللاذع: “موظف الدولة ممنوع يفكر!” إذ أنه يمنع على الموظفين الحكوميين أن ينشروا أرائهم قبل نيلهم الإذن الرسمي من رؤسائهم …يشرئب معترضا إذ ما ناداه أحد بلقب دكتور، رغم أنه كان يعلّم الفلسفة في جامعة الروح القدس، وقد كان أعد سابقا رسالة بحثية موسعة للدكتوراه حول فكر أنطوان سعادة، إلا أن واجب الانخراط في القضية اللبنانية والعمل الحزبي انتشله من الحياة الأكاديمية، فاكتفى بمنصبه كمدير لثانوية الجديدة الرسمية.

هو صاحب كتاب “لن نعيش ذميين” وأحد كبار المنظرين في طرح الفدرالية و “الحلول المتناقضة” لحلحلة عقدة النظام اللبناني، حيث يطرح قاعدته الذهبية وفكرته الإبداعية بوجوب قبول الأخر كما هو دون محاولة فرض تصوراتنا عليه، ولكن بالوقت عينه التمسك بذاتنا وهويتنا وخصوصيتنا المجتمعيّة دون الرضوخ فالانصهار ضمن قالب تصورات الأخر الذاتية. بالتزامن مع هذا النهج، يشدد على أن إرساء أي حل يجب أن يتأتى بالحوار والرضاء والقبول المتبادل بكل حسن نية بعيدًا عن الفرض والتلطي بظروف الاستقواء و الهيمنة… إذ أنه لا طالما ردد أن ما يأتي بالقوة يذهب بالقوة، أما ما يأتي بالإرادة الخالصة فيترسخ في الوجدان …

إنه يدخل عامه الثمانين بكل إباء وشموخ وتمسك بالقضية… أية قضية؟ قضية العيش الحر في لبنان والشرق.

الأستاذ أنطوان نجم

الأستاذ أنطوان نجم

رغم كل هامته الفكرية العظيمة وأمجاده السياسية و دوره “المرجعي” كأحد صناع تاريخ لبنان الحديث، وكثرة انهماكه بالإنكباب على “مشروع” مستقبلي هائل في قيمته العلمية – السياسية، ورغم كل المكونات المطلوبة لاستحضار تجارب الغرور والتعالي التي قد تفتك بأي إنسان وإن كان من العلماء والمفكرين، فإنك تدخل عليه لترى إنسانا متواضعا غير مدعٍ ومنصت للآخرين لو مهما كان حديثهم بسيطا، وغير “متشاوف” ولا متفاخر وغير محط من قدر الأخر انطلاقا من مسلمات المعرفة والمناصب المسبقة كما تتصرف البورجوازية الفكرية،  وغير قاطع بتجهيل من كان جاهلا ولا يطول بك الوقت لتكتشف أنك في حضرة امرئ يحمل في داخله مزايا القيم الرسولية، إذ تلمس لديه الحماسة والمحبة والاندفاع لا لغاية شخصية ما، إلا من أجل “الكلمة”. تلك الكلمة الإنجيلية التي علمت بحرية الإنسان و مساواة البشر من أجل التحضير للمسار ألخلاصي، والتي تجسدت في الحقل السياسي، حسب رأيه، عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع المواثيق المكمّلة، إذ يعتبرها المرجعية العليا لصوابية أي نظام أو دستور أو قانون .

الحديث معه يطول، ولكن الواقع الذي يعيشه أبهى، إذ أن الأستاذ نجم، بعيد اغتيال “بشير الجميل”، انسحب شيئا فشيئا من الحياة السياسية بعدما أن كان يترأس مصلحة العقيدة في حزب الكتائب و كانت له صولاته وجولاته في هذا المجال، و بعد أن كان من فريق العمل الذي تجمع حول بشير للسير معه نحو مشروع الرئاسة قبل سنوات طويلة من انتخابه وما تخلل ذلك من أحداث درامية وأخرى رؤيوية. فانكب مذاك على العمل الفكري المحض، إذ وضع مجموعة موسوعية تحت عنوان “أفاق مشرقية” تتناول كافة جوانب الفكر السياسي في لبنان، وتصويب المبادئ، وتصحيح المغالطات التاريخية، وتوضيح المنهجية الفكرية مقدما طروحات متماسكة للحلول الموجبة والتصورات المناسبة “النابعة من الواقع والبعيدة عن التبريج”،  للخروج من أزمة النظام مرّكزا على صيغة الدولة الاتحادية والتي يسبق نشوءها قيام أحزاب طوائفية بتكوين فدرالي، تكون الطريق الممهد لتغيير النظام بدءا من تكريسه في نفوس المحازبين المنتسبين لجميع الطوائف.

إضافة إلى هذه الكتب، واظب على كتابة المئات من المقالات في العديد من الصحف اللبنانية. “الفكر الملتزم” دائما ما يشدد عليه مبشرا بضرورة “الالتزام بالقناعات الذاتية أو الوفاء للنفس” و التكرّس من أجلها أقصى المستطاع، بعيدا عن العقائدية والتبعية اللتين يحتقرهما. أما قمة رأس الجليد التي تبوح ببعض من مكنونات حقيقة هذا “الفكر الملتزم”، وحقيقة هذه “الرسولية”، وهذه الرفعة والنزاهة، فتبرز من خلال تفانيه في حرصه الشديد على نشر معرفته ونقل أفكاره ومبادئه ، و شرح مقتضيات “القضية” عبر لقاءات شخصية مع مجموعات شبابية، وغير شبابية، محصورة بعيدا عن المحاضرات الاستعراضية والصالونات السياسية المصفوفة بغية تكوين الزعامات “الضيعجية”… بحيث يتحول اللقاء إلى موعدٍ ثابت من النقاشات العميقة وتبادل الحجة والحجة المضادة، فتمتد الجلسة ساعات عدة، وتتوالى لعدة أشهر.

لا يزال الأستاذ نجم حتى ساعتنا الراهنة، وهو في عيده التاسع و السبعين، متمسكا بهذه المسيرة، ومواظبا عليها منذ ما يجاوز العشرين عاما بشكل يومي، دون كلل أو ملل لدرجة أن “خريجيه” قد تجاوزوا الآلاف بكل أمانة…

وأذكر أني في إحدى اللقاءات قد اصريت عليه أن يريحني من عذاب ذنبي كل ما استثرت اعتراضه عند مناداته بالدكتور، فقال أنه يؤثر بمناداته باسمه أنطوان و لكنه إن كان لا بد من لقب فيكتفي باسم صفته في التعليم الرسمي”أستاذ”، معبرا عن مضضه بقبوله للألقاب..

وأنت فعلا أستاذ لا بل أكثر، أنت معلم! بسنين عديدة، وكل عام والإنسانية والحرية والفكر ولبنان وإياكم بخير.

———————————-

إقرأ للكاتب:

“مشروع اللقاء الأرثوذكسي” لقانون الإنتخابات النيابية في لبنان، دراسة قانونية في مدى دستوريته

طريقة بدعوية لعقد الزواج المدني في لبنان، الآن !!!